الخميس، ٣٠ يوليو ٢٠٠٩

الحياة بلون عيوننا

الحياة بلون عيوننا
وقف التاكسي أمام المبنى الشاهق، دعاها السائق للنزول، عندما وضعت ساقها اليسرى على الأرض أحست بشحنة كهربية مجنونة سرت فيها، أشفق السائق من تألمها الذي نقل إلى جسده لسعة الشحنة الكهربية الطائشة، رجاها ألا تتعجل، استندت على عصاها، ولملمت ثيابها واستقامت قدر ما سمح لها عمودها الفقري، قبل أن تخطو فوق الباحة الرخامية تطلعت إلى المبنى الشاهق في يأس ومرارة، لا بديل عن الخوض في هذه العلبة الخرسانية المكتظة.
منذ كسرت ساقها اليسرى أثر سقطتها في المطبخ، وهي حذرة في خطواتها، تتوقع نوبة الدوار مع كل حركة، تحذر الانزلاق مع كل خطوة، ابتسمت عندما وعت المفارقة، وزنها أصبح خفيفاً جداً، إلا أن جسمها يبدو أثقل وزناً عما مضى. الحذر في المشي يحرمها متعة النظر إلى وجوه الناس والتعرف على ملامحهم. هواية بدأت مع فراغها الذي شاركها مسكنها، ليس في الشقة سواهما، والذكريات تطل من حين لآخر حسب ما تجود به الذاكرة المكدودة. كانت تكمن للحياة الجارية في عرض الشارع خلف نافذة حجرتها بالدور الأرضي، تتفرس في وجوه المارة بقدر ما تعي عيناها الواهنتين، استفزاز لأرشيف الذاكرة ليفتح ملفات العمر الطويل الذي مر كأنه حلم عابر.
عزاؤها أن الوجوه التي تراها جميعها غريبة، الوجوه المألوفة رحلت، الأيام الراحلة تأخذ نصيبها من كل شيء، استدعاء الملامح أصبح عملية شاقة يعتذر عقلها بأدب عن الوفاء بها.
التوغل في العمر يعني التوغل في الغربة، كل شيء أصبح غريباً من الأسماء إلى الملابس وقصات الشعر، حتى ضحكات الناس اختلفت عن .. عن .. الأيام التي كانت تضحك فيها.
في ردهة الاستقبال الفسيحة أخبرها موظف الاستعلامات بأن المعاشات في الدور الأول، أشار إليها وفمه محشو بقضمة من وجبته الصباحية.
ـ اطلعي على السلم، المصعد لا يقف في الدور الأول، مسافة بسيطة.
الدرج اختراع حديث، الإنسان القديم كان ماهراً في صعود الجبال والأشجار، كانت له بنية جسدية نشأت في العراء، وكانت بيئته نظيفة.
يد تقبض على العصا، والأخرى تتشبث بحديد الدرج الغليظ، الكتل البشرية المندفعة صعوداً وهبوطاً تفجر قشعريرة في جسدها، تحذر من ضربة ذراع ملوح، أو دفعة من لحم بارز عن حدود الجسد الطبيعية.
عند نهاية الدرج كان لابد للجسد المنهك من راحة تعيد الأعضاء التي تنافرت لتسكن كما خلقها الله، توقف العراك المحموم بينها، كل يلقي باللوم على الآخر، والكل برئ.
اعتادت على الأوجاع، أصبحت جزءً من مكوناتها، ولا دواء للهرم.
وجَّهها أحد العاملين إلى مكتب في نهاية الممر على اليسار، استبشرت خيراً عندما رأت كرسياً خالياً، طلبت من جسدها المتألم أن يعيد توازنه فوق هذه المساحة الفارغة، وضعت يديها على مقبض عصاتها واسندت جبهتها إليه، جلست ترجو قلبها أن يهدأ لينتظم تنفسها المضطرب.
عندما سكنت أعضاؤها وحل فيها السلام، أحست بوجودها أمامها مباشرة، ثياب أنثوية، امرأة متوسطة العمر، يميزها وجه طفولي وابتسامة ملائكية ينفسح لها القلب بمساحة كامل الجسد، نظرت إليها في حنان أمومي. ـ السلام عليكم أستاذة خديجة؟ ـ أهلاً يا ابنتي. ناولتها يدها لتستند إليها، دعتها إلى غرفتها، واسعة جميلة، تخبر المتأمل عن لمسات أنثوية رقيقة رصعت الأركان والزوايا، ذوق رفيع وحساسية مرهفة للألوان. أمرت الساعي بعصير الليمون، وجلست في المقعد المجاور، أقبلت عليها بابتسامتها الرائقة قائلة: ـ رأيتك من خلف الباب الزجاجي تمرين من أمام مكتبي، خير يا أستاذة؟ ـ توقف المعاش وطالبوني بمراجعة الهيئة.
ذاكرتها المكدودة عجزت عن استدعاء صورتها، لكنها هيجت الخواطر والاحتمالات التي راحت تنبض في تلافيف وعيها.
كانت رحيمة، قطعت حيرتها المخجلة:
ـ أنا تسنيم.
سرت كلمتها كنسمة صيف على وجه ملبد مرهق، طوق نجاة من أمواج التخبط والاندهاش، اقتراب من شاطئ الحقيقة، سارعت بقولها: ـ إحدى تلميذاتك يا أستاذة، هل تذكرينني؟
دفعت كلماتها بطاقة تسنيم إلى بؤرة الذاكرة، طفلة مميزة، المعلمون لا ينسون تلاميذهم المميزون رغم تراكم السنين، احتضنتها بعينيها، تغيرت الملامح، لكنها مازالت تحمل براءتها. ـ هل تذكرين يا أستاذة، أنت علمتيني كيف أصلي، حملتيني بيديك هاتين كحمامة وديعة لأقف فوق المائدة الكبيرة، وأمثل الصلاة أمام تلاميذ الفصل. هل تذكرين؟
قالت ذاهلة وهي تغوص في عمق ماضيها الجميل: ـ نعم .... تسنيم، أهلاً حبيبتي. ـ دقائق يا أستاذة سأنهي أمر المعاش حالاً.
كانت تظن أن ذاكرتها أجدبت، إنها الآن حديقة غناء ثرية بألوانها وعطورها وطيورها، الماضي البعيد حي في قلبها الآن، مشاهد الحياة الجميلة تتواتر في منظومة ملونة بديعة.
مشهد تسنيم الطفلة فوق المائدة كان مثيراً، كانت خاشعة وكأنها ترى الله بعينيها، لم تتأثر بضحكات بعض زميلاتها أو تعليقاتهم عليها. مثلت الصلاة في خشوع مهيب، الذي لم تعرفه تسنيم حينها أن معلمتها تأثرت بهيئتها الخاشعة في الصلاة وانطلقت من صدرها شهقة أحست أن روحها ستخرج معها، لم يمنعها سوى دمعات ثخينة التقطتها بمنديلها سريعاً قبل عيون الأطفال الفضولية، دمعات ثبتت القلب المهتاج.
إنها الآن تذكر.
وجوه التلميذات، السبورة الخضراء، لوحة الشرف للأخلاق الحسنة والتميز الدراسي، أشكال معلقات الحوائط وألوانها، أشجار المدرسة المهذبة، سجاد المصلى الذهبي، محرابه الأبيض المهيب، ستائر نوافذه التي أبدعها قسم الأشغال بالمدرسة، أم إبراهيم عاملة المسجد التي لا تغادرها الابتسامة، .........
ـ مشكلة المعاش انتهت يا أستاذة.
ـ بهذه السرعة! شكراً يا ابنتي، إذاً آن الأوان لأنصرف؟
أمر بالهبوط من النعيم، استدعاء قاس للواقع الراكد.
ـ أنت في ضيافتي، يسعدني وجودك.
ـ أنت رقيقة منذ طفولتك، ولكن هذا مكان عمل، شكراً لك يا ابنتي.
ـ استأذنت لأصحبك إلى المنزل، أحب أن أفعل هذا بنفسي.
عندما مدت تسنيم يدها لتساعدها على القيام لم تجد صعوبة في الوقوف أو الحركة، لا أثر لألم الساق اليسرى، إنها تمشي برشاقة لم تعهدها في نفسها منذ سنوات، تكاد تستغني عن العصا التي كان يصعب الحركة بدونها، أحست بأن ظهرها الذي كان منحنياً استقام كرمح من الحديد الخالص. تصفحت وجوه الكتلة البشرية السابحة فوق الدرج، أحست أن الكثير منها مألوفاً لديها، حركة جماعية منتظمة كسرب طيور مهاجرة في أمان.
أصرت تسنيم على اصطحابها حتى باب شقتها، أرادت أن تشكرها، فرت كلماتها حياءً.
ـ اغفري لي يا أستاذة، جيلنا قصر في حقكم، هل تسمحين لي بزيارتك؟
ضمتها إلى صدرها، لمست خديها بحنان أمومي دافئ، وجدت لها ابنة حبيبة بعد سفر ولدها للخارج، ورحيل ابنتها مع زوجها للحصول على درجته العلمية، ملأت عينيها من صورتها الملائكية البريئة، وأغمضت عليها بحرص مخافة أن يتسرب منها شيء، غمرتها نشوة تكفي زاداً لمئات السنين.
كلما توغلنا في الوهم ابتعدنا عن الحقيقة، الحياة جميلة، لكنها تأخذ لون عيوننا.

أحمدي قاسم محمد