تنويعات على حكاية المواطن طه عبد التواب
(1)
أنهى الدكتور طه عبد التواب اليوم الأحد 14/3/2010 إضرابه عن الطعام الذي تواصل على مدار أسبوع، قضى نصفه مضرباً تماماً عن الطعام والشراب والماء والتغذية عبر الوريد حتى أشرف على الموت، ولكنه كان خلال هذا الأسبوع أشهر مواطن مصري على الإطلاق، لأنه أصر على أنه صاحب حق في أن يعتنق الفكر الذي اقتنع به، وأنه يجب عليه أن يقول ما يريد بحرية، وان يتحرك فوق أرضه كمواطن له كامل الحقوق الإنسانية والمواطنية التي كفلها الدستور المصري، وانه يرفض ممارسات السلطة الحاكمة في مصر ممثلة في أجهزتها البوليسية الباطشة.
أعرف طه عبد التواب، أو الدكتور طه عبد التواب، كواحد من أبناء مدينتي الطيبين، وجهاً من وجوهها المحبوبة.
فهو شاب مصري بسيط، لم يشتغل يوماً بالعمل السياسي، فهو لم ينتسب طوال حياته لأي من الأحزاب المصرية، وإن كان يتابع مثل كل أبناء وطنه سير الأحداث التي تؤكد تراجع الوطن مع كل قرار حكومي، وممارسة من حزبها المهيمن على السلطة باحتكار يحسده عليه الدكتاتويات في العالم، ومعظمها نشأ وترعرع فوق الأرص العربية.
عرفت هذا المواطن البسيط المنهك بين عمله الحكومي الذي ذاق فيه مرارة قهر الوظيفة الميري، وقاسى حظاً وافراً من الظلم والاضطهاد لمجرد أنه كان يريد أن يفعل الصواب، وان يقدم الخدمة الطبية اللائقة بمريض التأمين الصحي في مصر، وبلغ مرحلة من اليأس اضطره إلى الحصول على إجازة بدون مرتب اعتقد أن هذا حدث منذ ثلاثة أعوام تقريباً.
والدكتور طه ـ حسب علمي ـ لم ينل يوماً شرف التسجيل في أمن الدولة، ولم يحظ بشرف المثول بين أحد من أشاوس أمن الدولة الذين يظنون أنفسهم حكام مصر الذين يفعلون ما يشاءون، ولا يسألون عما يفعلون،.
(2)
يمكنني بحكم الخبرة الطويلة مع ضباط امن الدولة، أن استشف سيناريو الواقعة، لأنه حال المواطن اليومي مع ضباط الشرطة وخاصة أمن الدولة.
أظن أنه عندما دخل د. طه على الضابط، رأى الأخير في سمته الطيب ضعفاً، وفي قسماته المرتخية خوفاً ورعباً من هيبة الضابط البطل الشجاع، واستشعر من صمته وهدوئه دعة وخنوعاً، وويل لمن قرأ ضابط الشرط في وجهه واحدة من هذه العلامات، لن يمنح الفرصة ليبلع ريقه، أو يمهل لحظة ليفهم ما يجري.
فالاستقبال دائماً يكون بسيل من الشتائم الحقيرة بالأم خاصة، والجمل الحارقة التي تهدر كرامة الإنسان، ويقف المواطن مذهولاً من همجية الجسد المحموم المتفجر أمامه بدون جريمة أو مبرر.
وقبل أن يستوعب المواطن المسكين ما يحدث، وغالباً ما يصاب بالشلل من هول ما يسمع، يشير الضابط إشارات ذات مغزى لآلياته البشرية، فيشتعل جسد المسكين الواقف عزلاً ناراً بفعل الأرجل والأقدام والعصي وأحياناً أسلاك الكهرباء المجدولة و........
وغالباً لا يتعدى رد فعل الضحية المسكين التساؤل عن جريمته التي لم يمهله أحداً معرفتها.
وعند انتهاء جريمة الانتهاك والسحل ـ وهي غالباً لا تنتهي حتى يشعر الزبانية بالإرهاق ـ يكون الضحية قد فقد
القدرة على السؤال، وكف رغماً عنه عن الصياح والاستنجاد، وأحياناً التوسل، إلا بعد أن أصبح جثة محطمة تسيل منها الدماء، وتعلوها السجحات والتورمات، ويشعر صاحبها بأن جميع عظامه تحطمت وليست كرامته وإنسانيته فحسب.
النفس المكومة فوق بلاط الغرفة البارد، تتجرع مرارة الظلم والقهر، وتعايش معنى العجز وقهر الرجال، ويسطع رد الفعل المباشر في الوعي المهزوم عن الكراهية، وإذا كان الضحية شاباً صغيراً قد يسأل عن حقيقة إسلام هؤلاء الذين ينتهكونه؟ أو تطبق على رئتيه علامة استفهام بوزن جبل عن سر ما يفعلونه به وهو مواطن مصري شريف لم يخن الوطن ولم يخالف قانونه؟
أعتقد أن هذا هو ما حدث مع د. طه أو قريباً منه، فلا استجوابات حقيقية، ولا قضية، ولا تسجيل في دفاتر يحاسبون عليها، وأعتقد أنه أيضاً لا يوجد تحرير لوقائع مقابلة.
ولهذا قرر الرجل الطيب الإضراب عن الطعام والشراب حتى الموت، ورفض تنفيذ أمر النيابة العامة بإجباره على تناول التغذية بالمحاليل، وهبط السكر في دمه إلى أقل من ثلاثين، ودخل في حالة غاية في الحرج، ولم تجر في عروقه إلا بعد أن أفقده الوهن الجسدي القدرة على المقاومة.
إنها كراهية المواطن البسيط للحياة بعد صدمة معايشة واقعنا الأليم.
(3)
الدكتاتوريات تستنسخ آليات بشرية، هجين آدمي تم تشكيل عقليته ومكونه الثقافي للعمل كجسد بدون عقل حاكم، تمت برمجته على طاعة الأمر وتنفيذه، ولهذا يتم تجفيف روافده الفكرية والذاتية، ويصبح تنفيذ الأمر عنده يعني حياته التي لا يعرف غيرها، وفي مقابل هذا يمنح سلطات واسعة، فأعظم معضلة تذلل بمكالمة تليفونية ولو كانت فيها مخالفات قانونية أو دستورية، وتكفيهم جملة "دواعي أمنية" لتجاوز قرارات من يملك سلطات رئيس الجمهورية في المحافظة فضلاً عن مرءوسيه.
أحد هؤلاء الضباط وهو لا يزال يعمل بمكتب أمن الدولة بالفيوم حتى الآن، استدعى جميع المدرسين المكلفين بالملاحظة في امتحانات الثانوية العامة بإحدى مدارس بني سويف ـ موطنه الأصلي ـ في إحدى السنوات إلى مكتبه بأمن الدولة بالفيوم، وأبلغهم بأن ابن أخته طالب يمتحن في المدرسة التي هم ذاهبون إليها، وهددهم من فوق كرسيه وهو جالس يشرب عصيره ويأكل الشيكولاتة، إن لم يساعدوه بغض أنظارهم عن الإجابات التي سترسل إليه من خارج اللجنة، وإلا .........
احتسب أكثرهم موقفهم عند الله، وأقسم أحدهم أنه لن يذهب للملاحظة وأبلغ القومسيون الطبي بمرضه، وأصيب بحالة قرف لفترة طويلة.
إلى هذا الفصيل العنيد ينتسب د. طه عبد التواب.
(4)
عندما علمت بالواقعة سألت محامي د. طه عن مدى قوة بلاغ النيابة القانوني؟
نظر إليَّ مندهشاً وقال:
ـ أنت بتسألني ما أنت عارف، المحضر إداري، ولا يوجد شهود، ومصيره الحفظ كسابقيه، ولن تستدعي النيابة الباشا، وإن تجرأت سينفي بقوة وقد ينفي الواقعة من أساسها، التحقيق القانوني العادل مع ضابط شرطة لن يحدث في ظل حكم الحزب الوطني الدكتاتوري، لأنه الآلة البشرية التي مكنت هذا الحزب من سرقة السلطة في مصر وترتزق من حمايته.
ـ قلت له: التحقيق القانوني وإن كان حقاً لن نفرط فيه، إلا أن الفضيحة واجبة، والدفاع عن الحقوق والموت في سبيلها شهادة.
ـ قال وهو يضحك بقوة: الحكومة متجرسة ولا تختشي، والراقصة لو استحت ما تعرت وما كشفت عن جسدها وهزته أمام عيون الناس.
الدرس البليغ الذي يجب أن يتعلمه كل مصري من د. طه عبد التواب، ذلك الشاب طيب القلب، أن قامته القصيرة قد استطالت حتى رآها جميع المصريين رمزاً للحرية، وأن هذا هو طريق الخلاص، الإصرار على الحق، وحياة الحرية مهما كلفنا ذلك من قسوة، فإن عشنا عشنا أحراراً، وإن متنا دون ذلك سنلقى رباً راضياً، ونترك وراءنا جيلاً تعلم كيف تكون الحياة.
(5)
هل أصبح تأييد د. البرادعي جريمة قانونية؟
فالرجل مصري أصيل، وعرضت عليه النخبة المصرية قيادة المعارضة بما له من ثقافة قانونية، وخبرة في الإدارة العالمية، وعلاقات دولية واسعة، هذا بالإضافة إلى انه بارقة أمل سطعت في سماء مصر الملبد بالغيوم، ورمز للخلاص من حالة التردي التي انزلق إليها الوطن.
أليس من حق مواطن مصري بسيط أن يحلم بدولة مصرية تحكمها مؤسسات علمية متخصصة، ولها مرجعية قانونية واضحة الملامح تحكم آليات العمل الفردي والجماعي؟
إن لكل مواطن مصري كامل الحق في أن يعتنق ما يشاء من أفكار، ويعبر عن أفكاره بكافة الوسائل الشرعية، وينتمي لأي من التيارات والقوة الشعبية التي يعتقد أن نصرتها في صالح وطنه بلا غضاضة أو خوف على نفسه أو رزقه أو مستقبل أبنائه.
وأن ممارسة هذا الحق هو الضمان الوحيد لتحقيقه في واقع الجماعة المصرية، وتحويله من عمل فردي يكلف الدفاع عنه الإشراف على الموت، إلى حياة يومية يتمتع بها المواطنون المصريون الذين لا يعرف معظمهم أن لهم حقوقاً إنسانية ومواطنية مغصوبة، وأنهم يعيشون القهر الذي يحول بينهم وبين المشاركة في إدارة شئونهم الداخلية والخارجية.
(6)
كان المقزز أن يبرر ضابط أمن الدولة انتهاك كرامة المواطن د. طه عبد التواب، باتهامه له بأنه من الإخوان المسلمين، وأن الإخوان وراء تضخيم هذا الحدث، وكأنه لم يرتكب جريمة بشعة، وكأنه ليس هو صانع الحدث الجريمة، وكأن الإخوان أصبحوا فزاعة في الداخل والخارج، وكأن الانتماء للإخوان المسلمين أصبح جريمة تسقط حقوق المواطنة، وتهدر إنسانية المواطن.
وكأن الإخوان المسلمون أصبحوا بني إسرائيل في قبضة فرعون يتحكم في مصائرهم، وينتقص حقوقهم، ويفعل بهم ما يمليه عليه وهمه، وما تمور به نفسه من هواجس وأراجيف.
ويأتي الضجيج الإعلامي الموجه والمتواصل ضد الإخوان المسلمين ليصب في هذا الاتجاه بقوة، ليرسخ في وعي الناس أن ما يجري على مدار الساعة من انتهاك لحقوق الإخوان المسلمين حق طبيعي للسلطة، وممارسة يومية عادية، بالمنطق الفرعوني الطغياني: " وإنا فوقهم قاهرون"، وحتى ينسى الناس حزمة من الحقائق أصبحت مجهولة، أو شبه مجهولة في الوعي الجماهيري المصري منها.
ـ أن الإخوان المسلمين هم أقدم قوة شعبية فوق الأرض المصرية والأمتين العربية والإسلامية، فهم الهيئة
الشعبية الوحيدة التي ظلت قائمة بدون انقطاع منذ عام 1928 إلى يومنا هذا، في حين أصبحت
جميع التشكيلات الشعبية والسلطوية بلونيها الأبيض والأسود التي عاصرتها جزءً من التاريخ المصري.
ـ أن الإخوان المسلمين هيئة شعبية أصيلة في هذا الوطن، وأنهم مكون رئيس في الجماعة الوطنية
المصرية، وأنهم كيان شرعي وقانوني، ولا يحق لسلطة ما أن تنفي عنهم، أو تسحب منهم، أو تنتقص
حقوقهم.
ـ أن الإخوان المسلمين هم أكبر كيان شعبي منظم في مصر، وهم الكيان القادر على الفعل والترجيح
وحسم الخيارات في أي ممارسة حرة فوق أرض الوطن، وأنهم رقم له ثقله وتأثيره في معادلة الإصلاح
والتغيير في مصر، وهذا ما يفسره بجلاء موقف السلطة الحاكمة منهم.
ـ أن الإخوان المسلمين كهيئة شعبية منظمة، قوة مصرية يجب البناء عليها، ودعمها بقوة لأنها تمثل
الحصن الجماهيري الأخير الصامد في وجه المشروع الصهيوأمريكي الجاري تنفيذه فوق أرض مصر،
والذي نجني ثماره المرة اليوم بعد تحطيم القوى المصرية بشرياً ومادياً، والقضاء على الدور المصري
العربي والإقليمي والعالمي.
ـ أنهم المؤسسة الشعبية الوحيدة التي عجزت السلطة الحاكمة عن اختراقها وإفسادها في مصر، وهم
يدفعون فاتورة باهظة في سبيل الحفاظ على نقاء فكرتهم التي اعتنقوها، ووحدتهم التي يتشبثون بها.
ـ أن العمل على إضعاف الإخوان المسلمين في مصر جريمة في حق الوطن قبل أن تكون قضية انتقاص
للحقوق الإنسانية والمواطنية، وأن الأحزاب الورقية التي نصبتها السلطة كخيالات المآتة أكبر
الخاسرين، وأن رضاها القيام بدور الدمية المعارضة من حجر السلطة الحاكمة، لا يدعم الوطن، وأن
صمتها المخزي على ما يجري بحق الإخوان المسلمين جريمة وطنية تصب مباشرة في مصلحة السلطة الحاكمة التي سرقت الحكم في مصر، وعكست اتجاه الوطن.
(7)
يعتبر البعض طه عبد التواب محظوظاً لأن اللحظة التاريخية التي وافقت حادثته ألقت بقعة كبيرة وساطعة من الضوء على قضيته، رغم أنها قضية عادية في مصر، وممارسة يومية لأمن السلطة الحاكمة.
قد يكون هذا حق.
ولكن الحق اليقيني أن هذا الحظ لم يكن له قيمة بدون وقفة الرجل وإصراره على حقه.
لقد اكتسب موقف د. طه عبد التواب قوته، ووجد له أنصاراً دعموا بقوة، وآخرون ألهمهم موقفه الكثير من الشجاعة والإصرار على انتزاع الحرية، والإصرار على الحياة الكريمة في وطن قوي عزيز.
هنا تحول الرجل الذي انتهكت حقوقه إلى رمز وطني.
هنا أيضاً يجب أن نقف أمامه ونقدم له تعظيم سلام، نقول له:
شكرا د. طه، شكراً لكم، وعينا رسالتكم البليغة، لن نسمح لأحد بانتقاص حقوقنا الإنسانية والمواطنية بعد اليوم، سندافع عنها حتى لو أشرفنا على الموت.
وعينا رسالتكم كما وعاها عبد الرحمن يوسف أثناء زيارتكم في المستشفى وعبر عنها ببلاغة الشعراء:
(أن هذه ليست حالة إنسانية بل هي قضية سياسية شكلاً وموضوعاً ونريد أن نثبت أننا تلقينا رسالة السلطة وقرأناها واستوعبناها ومزقناها، وبدورنا نرسل رسالتنا وخلاصتها أن هناك قواعد جديدة للعبة وأن عهد التنكيل بالناشطين بدون ثمن قد انتهى إلى الأبد)
وكما أعلنتم أنتم أيضاً د. طه في بيان إنها الإضراب اليوم بقولكم:
(أؤكد لكل مواطن مقهور من أبناء شعبنا العزيز أن قطار التغيير قد بدأ ولن يوقفه أحد وأن حقوقنا
المسلوبة ووطننا المقهور لابد أن يعود إلينا مرة ثانية لنعيش فيه حياة كريمة بلا إهانات وبلا استبداد وبلا أزمات متلاحقة .
كما أؤكد لمن ظنوا أن هذا الشعب قد مات ورضي بالإهانة والذل أن زمن الإرهاب والظلم والقهر والاستبداد قد انتهى إلى غير رجعة وأن حاجز الخوف الذي أرادوا تربيتنا عليه منذ عشرات السنين قد انكسر تماماً ولن تعود عقارب الساعة إلى الوراء وأهمس في آذانهم أن يعودوا لخدمة شعبنا وحمايته بدلاً من أن يكونوا أداة في يد ساداتهم وكبرائهم لإذلالنا وإرهابنا)
هناك تعليق واحد:
ما اخذ بالقوة لا يسترد الا بالقوة
وها هو د/ طه يبدو انه اخذ حقه بقوة
وما زال الصراع مستمرا
إرسال تعليق