الأحد، ٢٧ أبريل ٢٠٠٨

اعتراف


اعتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــراف


· عندما علمت بالخبر أحست أن الدم حمم في العروق . معادن نارية في دوامة بمساحة الجسد. بركان عات يتفجر للمرة الأولى . احتقان الغلالة الجلدية ينذر بالانفجار . شيء ما يتمدد داخلي . خلايا سرطانية مجنونة لا تعترف بأن للجسد حدود ونهايات .
أم ترى أن حدود الجسد هى التي تضيق؟ غرقت نفسي في بئر قذرة .
اجتاحني طوفان من القرف . إنها جرأة مجنونة . أو سذاجة إلى حد البلاهة والعمى . هل حقاً جرؤ على التقدم لخطبتي ؟‍‍!
لم يسبق أن رق فعله في نفسي إلى حد الخاطر . فهو لا يمثل شيئاً بالنسبة لي . مجرد قريب . صلة قطعها الزمن وضاعت ملامحها عبر المسافات . كل منا له تفاصيل عالمه الخاص الذي قد تنكر ثوابته عالم الآخر أو تستنكره .
هو ابن عمتي . وعمتي لها في ذاكرتي صور حجرية متخلفة . امرأة خشنة تحتضن بقسوة وتقبل بعنف . تتحدث بكامل الجسد . صوتها صراخ . عيناها تغزوان الإنسان والمكان . تلتهمان تفاصيل عالمنا بنهم وشراهة . تختزل جمال الألوان في اللون الأسود . بدائية مقززة تتجاهل ثمار الحضارة الإنسانية .
كان لأمي فيها رأي آخر :
ــ عمتك طيبة القلب . تحب والدك أكثر من نفسها وتفخر به أمام الجميع .
أنا سعيدة لأن المسافات بيننا كبيرة . فنحن في القاهرة وهى في إحدى قرى صعيد مصر العميق . لم تزرنا سوى مرتين . الأولى وهى مسافرة للحج والثانية عند زيارتها لأحد أساتذة الأمراض الباطنية . وأنا لا أحب زيارة القرية . آخر مرة كانت وأنا طفلة صغيرة . رفضت من بعدها مرافقة أبي في زياراته النادرة إلى هناك .
أما هو . ابن عمتي . فهو واحد من مواليد ذلك المجتمع البدائي المتخلف . نشأ في طينه وكان له نصيب وافر من حرارة الشمس في الجنوب فصبغت جلده بلون داكن . هادئ . قليل الكلام . عيناه باردتان . ظاهره الساكن يعوق محاولات فهم حقيقته . فهو ليس شاباً يعيش انطلاقة الشباب وحيويته رغم أنه طالب بالفرقة النهائية بإحدى الكليات النظرية . مسكين لم يتعلم شيئاً من حياته الجامعية . فشل في التوافق مع المجتمع المتحضر . فلاح يلبس قميص وبنطال . الفهم القروي الساذج ليس حدوداً جغرافية وإنما هو خريطة جينية حاكمة تنبعث منها الأفكار والمشاعر والسلوكيات . العامل المعرفي يعجز منفرداً عن خلق الإنسان المتحضر .
مسكين حقاً لم يستوعب بعد أن المرأة هنا قطعت شوطاً بعيداً في الاستقلال . وأنها لم تعد تحلم بظل الرجل القوي الآمر الذي عليها أن تتفانى في خدمته . أو لعله يرفض هذا لأن المرأة الواعية تفضح تفوق الرجل المزعوم وتبطل دعوته الكاذبة .
لهذا كانت غضبتي المجنونة عندما علمت بأنه تجاوز كل هذا وتقدم لخطبتي . والعرض لا قيمة له فأبي وأمي سيرفضان لا محالة . ولكن الذي يغيظني حقاً هو كيف تفجر في قلبه هذا الخاطر الأرعن الذي سوغ له أن أصبح زوجته ?!
مجرد العرض إهانة لكرامتي . فهو يراني أصلح جارية تطبخ وتغسل وتخبز وتحلب بهائمه وتنتظر قدومه بلهفة لتمسح يديه وقدميه . يراني أصلح أمة تعبده . إنه في حاجة إلى واحدة من تلك اللواتي يغطين وجوههن وسيقانهن ويرتدين القفاز لستر الكفوف والأنامل . وأن لست من هذا الصنف المتزمت . أنا فتاة متحررة ترى الناس بعيون عصرية . وهو متدين يتحرى أوقات الصلاة . فهل يتنازل هو عن دينه من أجلي ؟ أما أتخلى أنا عن حياتي وقناعاتي .
عندما هدأت نفسي قليلاً أقنعتها بأن العرض لم يكن أكثر من نكتة سخيفة . وأن الإهمال هو الرد المناسب عليه . وتعرفت على متعة جديدة تذوقتها للمرة الأولى وهى المبالغة في إظهار حبي وتعلقي بكريم عند وجود ابن عمتي عندنا . لعله التشفي أو الثأر . ولعله يعي الفارق بينه وبين اختيار قلبي . نقيضان لا يجتمعان في صفة . المسافة بينهما هى ذات المسافة بين الماضي البدائي القديم المتخلف والواقع الحضاري الرائع .
فكريم رفيق الطفولة وزميل الدراسة وابن صديق والدي الحميم أستاذ الطب . ويستعد ليتسلم عمله بوزارة الخارجية . وحتمية زواجنا يعلمه الأصدقاء والجيران وتباركه الأسرتان . فنحن لا نفترق . في الجامعة . في النادي . في المذاكرة . كلانا يعرف الآخر . يعي مفرداته . كتاب مفتوح أمام الآخر . أو بتعبير والدته :
ــ والله كأنها ما خلقت إلا له وما خلق إلا لها .
لم يكن يمنع زواجنا سوى الدراسة . الأيام تجري كنهر عذب في مجراه الأثير . تدفق متواصل من المنبع إلى المصب . ما سيكون في الغد معلوم سلفاً بإتفاق الجميع . توافق مثير لايجهد الفكر في إختيار من متعدد . الأيام تسير بنا كصديق حميم يتفانى في إرضاء صديقه . لكن هذه الحميمية انقلبت مع السيارة .
ذات مساء انقلبت السيارة . أو انقلبت الحياة . كل شيء فيها تغير . ثوان معدودة فصلت بين حياتين لايجمع بينهما قاسم مشترك إلا اسمي . أما باقي المفردات فكانت مختلفة في كل شيء .
عنما فتحت عينى أحسست أني في احدى ألعاب الملاهي الخطرة وأنا مركز دائرة مجنونة تدور في كل الإتجاهات بلا مدار منتظم . الجسد ثقيل . وخزات حاقدة في كل الأعضاء . مع مرور الساعات المؤلمة تبين لي أني مشدودة في أربعة قوائم ، وأن الدائرة المجنونة التي تتأرجح في الفضاء ما هى إلا سرير أبيض .
عندما استعادت عيناى القدرة على معرفة الألوان والتكوينات بأحجامها الطبيعية . كانت أمي ملقاة بإهمال على مقعد في جواري . رأسها منحدر بطريقة تدعو للشفقة . في عينيها آثار دموع متجلطة . شفتاها متجافيتان . فكاها السفليان كانا في حالة إنهيار وتردي اثر خصومة حادة . وذراعاها اسدلتا في فضاء المقعد دون اعتبار للمخدعين الخاليين .
إلى جواري من الناحية الأخرى كان هو . ابن عمتي . جالس في كرسيه كحارس يقظ . عندما نظرت تجاهه اتسعت حدقتاه . تأهب في كرسيه . وبابتسامته المعتادة التي لا تعبرعن فرح أو حزن انشقت شفتيه :
ــ حمداً لله على سلامتك .
أقدام الدقائق البغيضة كانت تسحقني . وكلما مرت كانت تكشف عن حجم خسارتي . لم أتبين حقيقية الدمار الذي أصابني . قصر بديع إنهار بفعل زلزال ماجن . البحث تحت الأنقاض عن أمل لحياة باقية مرحلة متقدمة وينعدم بفعل الزمن .
شفت الجراح غليلها من جسدي أو لعلها سئمت من إيلامي وتعذيبي . أو ربما أنا التي اعتاد جسدي عليها . العشرة تولد الألفة . الجزم بأيها صواباً كان أمراً صعباً . لكن المؤكد أنني أصبحت فريسة لجيوش الغزاة . فكلما انسحبت فصائل آلام الجراح غزت بأضعافها كتائب المرارة والإنهزام .
لم يأت كريم . آخر مرة رأيته فيها عندما لوح لي مودعاً وأنا أنطلق بسيارتي الصغيرة . بحثت عن باقة ورد منه . راجعت أرقام الهواتف التي المستلمة والتي لم يرد عليها . تجولت عبر الرسائل الواردة إلى تليفوني المحمول . جميعها كانت قبل الحادثة . اكتشفت أن صندوق رسائلي كان مكتظاً برسائله وحده مثل قلبي تماماً .
السؤال الوحيد الذي سألته لأمي عنه سقط بعفوية من فمي عند لحظات الإفاقة الأولى . لم أتلق منها إجابة . فقط نظرة صامتة . انسلت عيناها حرجة وهربت عبر نفق من الكلمات:
ــ الغائب حجته معه . لعل شيئاً منعه .
لم أجرؤ على السؤال ثانية . الأسئلة المكتومة صارت قبضة حديدية خانقة تكتم أنفاسي لحظة بعد أخرى .
ماهو هذا الشيء الطاغي الذي يمنعه عني . لم أكن أعلم أن هناك قوة في الكون قادرة على أن تمنعه عني أو تمنعني عنه . ولكنه امتنع .
لماذا يصر الإنسان على معرفة الحقيقة البشعة ؟ ما قيمة الحقيقة إذا كانت تحمل للإنسان نبأ موته ؟
حقيقة بشعة حطمت الواقع ودمرت الحلم . تخلى عني لأن الجراحات المتعددة أفسدت جمال ساقي الأيمن . لأن القطع البلاتينية التي زرعها الأطباء في ساقي لم تكن كافية لمعالجة العرج الخفيف الذي سيلازمني . وبالطبع لن أصلح زوجة لدبلوماسي . لن أجيد الرقص . لن أجيد المشى برشاقة عارضات الأزياء . ولعله اعتقد أن ساقي لم تعد صالحة للتعري . سيحسبونها عورة يجب سترها لما فيها من عرج . لم تعد صالحة للإغراء .
انقطع فجأة من حياتي كأنه لم يكن . وكأن السنين الخوالي حلم يقظة . المرارة تملأني بمساحة الدم العاصف في شراييني وأوردتي . أحتاج لعلاج يوقف الألم المبثوث في كل خلايا الجسد المنهك يرحمني من رؤية الحقيقة البشعة . من هروب ملتاع في بيت أشباح لا نهائي . دروب ومسارات مظلمة ، كهوف موحشة ، تلال من الجماجم والعظام الآدمية
اليد الرحيمة التي أنقذتني كانت يد أمي . اكتشفت أنها تجفف دموعي . وأنني أبكي .
الآن علمت لماذا يختار الناس الإنتحار . لماذا يقتلون أنفسهم بأيديهم ؟ للخلاص من العذاب الذي لا يعرف الرحمة .
عندما وقعت الحادثة انفصلت عن الوعى . قوة رحيمة أشفقت على نفسي من مشاهدة الإصطدام المروع ، آخر ما رأيت اصطدام بمؤخرة السيارة ودفعة هائلة للإمام . لم أر ما حدث . أنا الآن أفتقر لرحمة هذه القوة لتفصل وعيي حتى لا أري الحقيقة .
كلما فتحت عينى في لحظات الإفاقة كنت أراه دائماً إلى جواري كتمثال أبي الهول الحارس لكنوز الفراعنة المخبوءة في مقابر الأهرامات .
في البداية اغتظت لوجوده . انزعجت من تطفله . ربما كان شامتاً . عجزي وضعفي كان يغذي فيه روح الإنتقام والتشفي .
تعددت النظرات بتعدد الإفاقات . قراءات جديدة لصفحة الوجه السمراء الداكنة . لم يكن قبيحاً كما كنت أعتقد . تقاطيع جادة . شاب وقور . هدوء لايعرفه سن الشباب . فارق كبير بين نبتة في أرض طينية زرقاء وشتلة في تربة رملية صفراء . كلانا مختلف حقاً عن الآخر . لونان متناقضان . لهذا كنت محقة في رفضه عندما تقدم لخطبتي . أعترف أنني كنت قاسية . الإحساس بالمهانة كان مبالغاً فيه . إنه ابن عمتي رغم الفارق بيننا . كما أنه إنسان لم يطلب شيئاً محرماً .
كانت إعادة قراءة حياتي من جديد جزائر رحمة في محيط العذاب الذي أسبح فيه راغمة.
مع خطواتي الأولى لتعلم المشى على عصاة اكتشفت أنني أمشي في دنيا غير دنياى الأولى . كل الثوابت تغيرت . لم يبق لي من دنياى السابقة سوى الاسم مجرداً .
لاأعرف يقيناً ما الذي تغير . هل هى الدنيا من حولي ؟ أم عيناى ؟ أم رؤيتي للأشياء ؟ اختلاف قد يكون أحياناً من النقيض للنقيض . أتعرف على الأشياء . كل الأشياء من جديد .
الذي لم أفهمه في حينه أن انقلاب السيارة عدل أمامي كتاب الحقيقة . وأن الدم الذي نزف كان يحمل خلايا الجهالة والأنانية . وأن الذي تحطم مع السيارة كانت قيودي وأغلالي . وأن الإعاقة انتقلت من بصيرتي إلى ساقي .
عندما اقتربت أمي مني ذات يوم وسكبت في جسدي لذة كنت أعشقها في طفولتي عبر مسحة كفها الحاني فوق شعري أخبرتني أن ابن عمي تحدث مع أبي في زواجنا والأمر إليك . لم أغضب ولكني رفضت . لن أتزوج شفقة . أرفض أن أكون أرضاً بوراً زهد الفلاحون حراثتها . رجل شهم كريم يضمد جراح ابنة خاله وهو أولى بسترها .
لم يعلق أحد على قراري . لم أشاور ولم يتطوع أحد بإبداء الرأي .
ذات مساء جاء لزيارتنا . سلم وجلس . انسحبت أمي بدعوى إعداد الشاي . أفسحت له المجال . لم يتكلم كثيراً . خرجت كلماته هادئة بصوت رجولي عميق :
ــ تقدمت إليك من قبل . والآن . وسأنتظر . أتمنى أن تكوني زوجة لي وأماً لأولادي .
عندما رفعت عينى لآرى وجهه كان هادئاً مطمئناً واثقاً من نفسه . قرأت في عينيه ما لم يبح به لسانه . رأيت رجلاً يعشق بطريقته ويعبر بأسلوبه . ويعيش وفق معايير أخرى للرجولة التي كنت أعرفها .
لم أجرؤ على الكلام . كبحت قلبي الذي هم بأن يهوي إليه . ألجمت شفتى بيدي . لم أطمئن إلى قدرتهما على منع لساني من الكلام . مشهده طهرني من هواجس الشيطان وأباطيله . مازالت في نفسي آثار للجاهلية .
بعدما خرج قلت لأمي أنني موافقة على الزواج به . ولم أفكر عندما سألتني :
ــ ستنتقلين إلى عمق الصعيد ؟
سأنتقل إلى رجل يحبني وأحبه . نعم يا أمي مهما تغير موقعي فوق الأرض فهو سيكون وطني .
وهناك قرأت الحياة للمرة الثانية . انقلاب جديد . آفاق ممتدة للمعاني . حب تتحرج الكلمات عن وصف بهائه .
عندما اقتربت منه أيقنت أني كنت جاهلة . وأن هذا الرجل الذي رفضت الزواج به مرتين يملك منطق الفلاسفة . وحكمة العلماء . ورقة الزهاد . وقوة الأولياء . وكلما رأيته يخطر في ثيابه المنزلية الفلاحية الفضفاضة أسأل نفسي .
هل يمكن لهذه الثياب البسيطة أن تحوي بداخلها كل معاني الرجولة ؟
قرأت ذات يوم خبراً في الجريدة عن ترشيح كريم ليكون سفيراً باحدى الدول الأوروبية . نبش الخبر في ذاكرتي . أيقنت بنعمة الله التي آثرني بها . وأن جناب السفير خطيبي السابق حظه متواضع جداً وفق معاييري التي تعلمتها للرجولة . وأن المسافة بينه وبين زوجي هى ذات المسافة بين الزيف والحقيقة .
هذا المساء عندما كنت أتلو وردي القرآني وهو إلى جواري يصحح أخطائي ويفسر ما أغلق علىّ فهمه وقفت فجأة عند قول الله تعالى :
" وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم والله يعلم وأنت لا تعلمون "
احتضنتني نظراته الرحيمة وقال بأسلوبه الحاني الرقيق .
ــ المعنى واضح .
رويت عينيّ من صفحة وجهه الأسمر الرائع . واستمتعت بعبق الهواء السابح في رئتي :
ــ كأني أقرأها للمرة الأولى .

سنورس في :
صباح الأحد : 25/4/ 2004