الأربعاء، ٧ مايو ٢٠٠٨

ظل الرجل


ظـــــــــــــل الرجــــــــــــــــــل

عندما رحل فجأة لم تفهم معنى الرحيل . لم تعي تداعياته لم تدرك حقيقة الوحدة وموقف الآخرين . كانت صورة المستقبل أمامها ضبابية . ألوان داكنة . تنويعات بين الأسود والرمادي بلا ملامح محددة . واقع مشوش ومستقبل مجهول .
كانت دائماً بعيدة عن التفاصيل والجزئيات . لم تكن في دائرة اهتمامها . لم تعتد أن تجدف وحدها في بحر الحياة . كانت هناك دائما يد رجولية قوية تجدف لها . أما هى فكانت تستمتع بدفء الحياة بلا عناء .
في الماضي كان الأب الحاني مسئول عن كل شيء . يلبي حاجاتها . يتحسس الرغبات الوليدة . يبذلها بكل الحب كقرابين مقدسة مع رجاء الرضى . ومن رحمة الله تعالى بها أنه لم يرحل حتى سلمها إلى قدرها الجميل . قال لها :
ــ أنا صدري منشرح لهذا الشاب . سأطمئن عليك معه .
عندما رأته في المرة الأولى وجدته شاباً عادياً . واحد من أولئك الذين تراهم في حياتها اليومية . هادئ مطمئن . لم يكن فيه شيئاً مميزاً يدعوها للقبول بحماسة . ولم يكن فيه أيضاً ما يدعوها للرفض بإصرار . إلا أن كلمات أبيها كانت كافية لترجيح الموافقة . لم تكن لها مواصفات خاصة في الزوج المرتقب . هى أيضاً كانت فتاة عادية . لم يكن فيها شيء يميزها بوضوح عن البنات . عندما سألوها عن رأيها فيه قالت :
ــ المهم أن تثقوا في دينه وخلقه .
كان هادئاً كبحيرة صافية . هدوء السطح يخدع عن ثراء الأعماق . مع المحاولة الأولى اكتشفت أنها في بحر عميق آمن يدعوها بحنان للسباحة والغوص . آفاق إنسانية بلا حدود . عندما غاصت في أعماقه اكتشفت عالماً جديداً لم تكن تعتقد بوجوده تحت ثيابه الآدمية البسيطة. الملامح الدقيقة الجادة واللحية الصغيرة غير المنتظمة والتي توزعت كشتلات متفرقة على صفحتي الخدين ، كبساط صحراي مزين بنتوءات صخرية متباعدة . الشارب الصغير النابت على استحياء كان له نفس لون الشعر المائل إلى الصفرة . عضلات وجهه المتمددة في استرخاء يوحي بصعوبة تحريكها . لم يكن ظاهره جذاباً . عجزت الهيئة عن التصريح بحقيقة الرجل النورانية . الذي علمته فيما بعد أن التعبير الصادق عن جمال حقيقتة باطنه يحتاج إلى هيئة صديق . اعترفت بأنها كانت جاهلة . لم تكن تعي معنى أن اليد الإلهية الكريمة خلقت الإنسان بهذا الإتقان .
ثلاث سنوات كاملة غاصت في أعماقه الحلوة . تمددت على شاطئه الأبيض الناعم . أسلمت روحها طواعية . وهبتها له . عاشت سعادة الدنيا في ظله . لا تذكر أنها سألته شيئاً . لم تكن في حاجة إلى شيء من الدنيا . أغناها عن الدنيا جميعاً . عرفت معه معنى صلاح البال الذي كانت جدتها تدعو لوالديها به . معاناة الآخرين كانت تؤكد لها روعة جنتها . عظم النعمة الإلهية التي منّ الله تعالى عليها بها . كان الرجل الذي أحبته بحق .
عندما استيقظت ذات صباح كان في جوارها . تحسسته بيدها كما اعتادت وجدته بارداً . وعند انتفاضتها صدمتها الحقيقة القاسية . الجسد المسجى في فراشها كان بلا روح . لم تصرخ . لم تدر ماذا حدث ؟ ذاكرتها خالية من التفاصيل . كل ما تذكره أنها فتحت عينيها فرأت نفسها ملقاة في دوامة سوداء نازفة . عيون حمراء متفجرة بالدموع . وأنوف ملتهبة طافحة . وشفاه تلهج بكلمات الإشفاق والمواساة . علمت من كلمات النسوة أنه رحل . وأنه لا يجب عليها أن تسأل إنه قدر الله . وأنها صارت وحيدة . هى الآن الأب والأم للطفلة الصغيرة . كان الوعي طائراً يحلق فوق رأسها فلا هو سكنها ولا هو غادرها .
الذي تيقنت منه حينئذ أن الحياة انسحبت من جسدها عندما كانت روحه تنسل من جسده . تأكدت عندها أنها هى أيضاً ماتت . الموت قاطع طريق فظ لا يعرف الرحمة .
لاتذكر كم مر عليها من الزمن . عند فقدان الحياة لا قيمة للزمن . كانت كسجينة في كرة شفافة تنطلق في الفضاء بحركات مجنونة . لا مرسى ولا شاطيء . تيه فضائي بلا حدود . كأنها جزء من إحدى ألعاب الكمبيوتر المرعبة .
مع الأيام بدأت تكتشف قسوة عظام الكلمات بعد أن تجردت عن سواترها الزائفة . الوحدة كانت مجرد مفردة لغوية تعنى أن الإنسان ليس له رفيق أو أنيس لكنها الآن تعنى فضاء لا محدود . صحراء بلا نهايات مرئية . كوكب غريب فارغ لا يحوى أى مظاهر أو مقومات للحياة تنكر فيه كل شىء من هوائه إلى تربته وسمائه . حفرة موحشة كقبر صامت . كليل صحراوي كئيب .
عندما بدأت تخرج تدريجياً من قبرها اكتشفت أن مفردات الكون تبدلت . الألوان والطعوم والروائح . الشوارع والمسميات . ميلاد جديد . أو بعث بعد موت . غربة لم تألفها في حياتها السابقة . 0الناس تغيرت . كأنها تنظر إليهم للمرة الأولى . عيون مشفقة تترحم عليها . تقرأ فيها مرثيتها . تندب حظ الجمال الشاب العاثر . وأن الحلو لا يكتمل . وأن الدنيا لها أهلها . وأن الفقيد الراحل لم يكن من أهل الدنيا . مع تمني العوض في رجل آخر يمتع الشباب ويتمتع به . وأن هذه هي سنة الحياة . ربنا يرزقك بابن الحلال الذي تتنعمي في ظله . الخالق موجود وهو على كل شيء قدير .
للمرة الأولى تقرأ العروض الآثمة في عيون البعض . جرأة حيوانية طاعنة . رأوا أنها حرمت من الرجال . وأنها تعاني برودة الفراش . نظراتهم المحرمة دعوة أخطأت الإختيار .
مساكين لا يقرأون في النفس الإنسانية إلا شطرها الحسي . يعتقدون أنها افتقدت شريك المتعة . لا يفهمون أنها لم تفقد زوجاً رحل وإنما فقدت السكن الذي كان يحتويها . القلب النابض في عمق الجسد . والثوب السابغ لملامحه ومفرداته . الروح المنتشية التي كانت تسري في كيانها فتملأ أرجاءها حباً وحناناً . هل المرأة كائن ضعيف إلى هذا الحد ؟‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‌ ‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍
لم تشعر قبل الآن أنها مشكلة . وأنها أصبحت عبئاً ثقيلاً . وأن من حولها يتواصون بمرافقتها ويحرصون على ألا تبقى وحيدة . يتناوبون على رفقتها عجزت في البداية عن استيعاب لغة العيون البليغة من حولها . ولكنها بدأت تفهم مع مرور الأيام . أنهم يبحثون لها عن حل لأن هذا الوضع لا يرضى به أحداً . فتاة شابة تقيم في شقة بمفردها ليس معها إلا طفلة رضيعة . لابديل لها عن رجل تستظل به .
لاحظت ظهور إشارات بعيدة . كلمات تومض على استحياء وسرعان ما تنطفيء بما لا يتيح لها قراءة الحقيقة الكامنة وراءها . ومع الزمن تعددت الومضات . اطمأنت فتمهلت في الرحيل لم تعد تنطفيء سريعاً كما كانت .
فطنت إلى أن حالة الطواريء المعلنة حولها تهدف إلى البحث عن عريس مناسب تحتمي في ظله .
بدأ اسم أخيه يطرح كثيراً . الحديث عن شبهه الكبير بالزوج الراحل وكأنهما توأم . عن أحقيته بتربية الطفلة . وأنه أولى الناس بأبوتها وأحنهم عليها فهى من لحمه ودمه . وكما قال آباؤنا الحكماء قديماً : " جحا أولى بلحم ثوره " .
عندما اجتمعت المفردات المبعثرة حياءاً وجلست كل مفردة في مكانها الطبيعي تكونت الجملة المفيدة . الأخ الأصغر لزوجى الراحل هو الرجل الجديد المرشح ليكون لى زوجاً .
بمعيار الأنثى الزواج به صفقة رابحة . وبرؤية الواقع تضحية كبيرة يقدمها الفتى . يتنازل عن أحلامه في فتاة بكر تفتح عينيها بين يديه للمرة الأولى . تتعرف على روعة حديقته . تكتشف أنه الجذر والساق والأوراق . وأنه التربة والهواء والفضاء . وأنه عالمها الخاص الذي تهتز فيه نشوة وطرباً .
لم تنظر عينيها إليه مرة كرجل بالمعنى الحسي . كان دائماً لها الأخ الأصغر . فارق السن بينهما لم يكن كبيراً . هى تكبره بثلاث سنوات . لكن موقعها منه ألبسها ثوب الأم التي افتقدها منذ طفولته .
هل يمكن للمرأة أن تبدل مشاعرها بنفس السهولة التي تبدل بها ثيابها ؟
الصدمة المفاجئة برحيل الزوج . والسفور الوقح للنفوس اللاهثة وراء الشهوة الجسدية التي ترصد الفريسة بصبر مثير وتتحين لحظات الضعف للإنقضاض . فضح الدنيا أمام عينيها . رأت زهورها البديعة بلاستيك رديء من المخلفات مصبوب في قوالب حديدية . وأن السن قد يكفي وحده لإرتداء ثياب الحكمة ولكن الإنسان لا يشربها إلا في أواني التجربة النارية .
عندما رحل الزوج الحبيب انفرطت نفسها . تبعثرت أشلاؤها . أنكر بعضها بعضاً . أصبحت فلولاً ضائعة في الصحراء تجهل الطريق الآمن إلى العمران . لذا كان عليها أن تتوقف . تحدد موقعها بدقة . تجتهد في البحث عن نجوم هادية . عليها أولاً أن تعيد كل سلامة فيها إلى مكانها الصحيح .
البحث المحموم عن ظل الرجل . أي رجل . الضعف النسائي الطافح من العينين والشفتين والملامح غير في داخلها الكثير . قرأت الحياة كما هى لا كما تريد . فتح أمامها كتاب الحقيقة الذي كانت تستمتع فقط بالنظر إلى غلافه من الخارج . الآن علمت ما لم تكن تعلم .
سر ضعفها لم يكن من رحيل الرجل وإنما كان من ظله .
كان اختيارها الأول أن تكون تابعة . أن تسلم قيادها للرجل . فلما رحل رحلت معه الحياة ووقفت وحيدة على شاطيء عاري تواجه العواصف والأعاصير ولا نجاة لها إلا بيد رجولية تنتشلها إلى سكن آمن .
لكنها لن تقبل الآن أن تكون ظلاً لرجل آخر . الحب يعني بذل الحياة لإسعاد المحبوب . ولكنه لا يعني إلغاء الذات . المشاركة تعني أن يذوب كلاهما في الآخر . أن يصبحا ذاتاً واحدة . أو كما قال الله تعالى " هن لباس لكم وأنت لباس لهن " .
لن تكون الفتاة التي كانت . تشعر بأنها قطعة معدن ثمينة خلصها اللهب من جاهلية شوائبها العالقة . صارت معدناً نقياً خالصاً . الإحساس بالطهر والنقاء ملأ أرجاءها بصفاء رائع . غنى لا فقر معه . قوة تتعالى على ضعف الجسد . رأت نفسها كأرض مبسوطة ممهدة . محرمة عليها النتوءات الشاذة . أو التجاويف الموحشة . إنها الآن تصلح للحرث .
عندما نظرت من نافذة غرفتها إلى صفحة السماء المطوية عند الأفق . اكتست شفتيها بابتسامة لينة وهى تنظر إلى وجه الحبيب الراحل يتألق مبتسماً منشوراً كنسيج قطني ناصع . أغمضت عينيها . تمتمت شفتاها :
ــ إنه حبك الذي علمني .
أحمدي قاسم محمد
النائب الشرعي لدائرة مركز سنورس ـ الفيوم
سنورس في :
صباح الجمعة: 9 /4/ 2004