الاثنين، ١٦ فبراير ٢٠٠٩

هذه لحظة تاريخية فاغتنموها

مع بداية الأسبوع الثالث للعدوان ذاب الضباب تماماً من سماء غزة، أشرقت شمس الحقيقة على أرض الرباط لتتألق مفرداتها أمام العالم أجمع وتنطق بلسان عربي مبين، ورسالة بليغة للعالمين. ـ القضية ليست حماس، إنها شعب غزة، فخيار الجهاد ليس خيار فصيل مقاوم قُدِّر له أن يحكم مليون ونصف من البشر، ولكنه خيار المليون ونصف من البشر، وأن البطاقات الانتخابية التي حررها الشعب الفلسطيني وصبها في الصناديق لصالح حماس، لم تكن لحماس بقدر ما كانت خياراً صريحاً للجهاد والمقاومة المسلحة كعقيدة ونهج حياتي، وحل لمعالجة قضية الاحتلال والعدوان، وهذا ما وثقته وسائل الإعلام وهي تنقل رد الفعل العفوي للغزاويين مع تباين أعمارهم ومستوياتهم الثقافية. ـ أن هذا الثبات الجهادي المبهر الذي قدر الله تعالى له ينبت وينضج بعيداً عن أيدي السلطات العربية، وبعيداً عن سجونها ومعتقلاتها وتجويعها في شطر الأمة، وبعافية من رفاهيتها وإسرافها وإلهائها في الشطر الآخر، انتقام ورد اعتبار لآبائهم المجاهدين الذي انطلقت أجسادهم ملبية نداء أرواحهم للدفاع عن فلسطين وقت النكبة الأولى، فأعادتهم السلطات العربية مكبلين في الأصفاد إلى السجون والمعتقلات، ودفعت بجيوشها النظامية لتهزمها العصابات الصهاينة وتمزقها في الصحراء، ثم تعود خائبة لتدخل نفق التفاوض بأيدي خاوية، وتضيع فلسطين إلى الآن. ـ أن الكيان الصهيوني ضعيف وليس بالقوة التي ترهبها السلطات العربية، فالجيش الذي لا يقهر، والذي هزم جيوشاً قادتها ودربتها السلطات العربية في ساعات، يقف اليوم عاجزاً أمام فصيل مقاتل، يتحداه ويتلاعب به أمام العالم أجمع، ويهين كبرياءه المزعوم على مدى أسبوعين كاملين رغم أنه يقاتل فوق أرض يحفظ دقائق تضاريسها، ويجول في سمائها بلا شريك، وبكل ما يملك من قوى وتقنيات ودعم مادي وسياسي. ـ أن قتل المدنيين فعل انتقامي للصهاينة، هزيمتهم في ساحة المواجهة، وعجزهم أمام رجل العقيدة، دفعتهم لإغاظته في أهله، لارتكاب جريمة قصف النساء والأطفال عن عمد وإرادة، وهو رد فعل الفاجر عندما يعجز، وعمل اعتادت عليه العصابات الصهيونية، وبه قامت دولتها في عيوننا. دفتعهم للانتقام من المساجد التي كانت بمثابة الحضانات الإيمانية المفرخة لكتائب الإذلال الصهيوني. ـ أن الأمة حية لم تمت، وأن دماء الشهداء هي ذاتها دماء الإحياء، هذا ما أعلنته الجماهير التي هبت ملبية بأموالها وحناجرها، تمني نفسها بالجهاد في غزة، والانتقام لمئات الآلف الذين غدرت بهم العصابات الصهيونية منذ بدأت مشروعها الاغتصابي للأرض المباركة. هذه الجماهير المسلمة التي تنادت واحتشدت في جميع أنحاء المعمورة، أعلنت بفصاحة أن أمة محمد  لن تموت لأنها تحمل رسالة من الله إلى الناس كافة، وأنه لم يزل لها دور تلعبه في تاريخ الإنسانية، وزمن قيادتها أشرف فجره على الانبثاق. ـ أن الجهاد فوق أرض الرباط الآن كشف للعالم أجمع مدى بشاعة الكيان الصهيوني الذي صنع له الإعلام الغربي زوراً وبهتناً وجهاً حضارياً مشرقاً، وفي ذات الوقت وصم الفلسطينيين والعرب عامة بالإرهاب والدموية والخطورة على الحضارة الإنسانية، هذا فضلاً عن الجهل والتخلف الذي التصق بالعرب في العقلية الغربية الغافلة عنهم. الآن أسقط الجهاد الفلسطيني فوق أرض غزة هذه الأكاذيب، وفضح المسخ الصهيوني الاستعماري البشع، في حين كانت تعجز الحملات الإعلامية القوية المخلصة على مدى عقود وعقود عن فضحه وتعريته.. إن الدماء الفلسطينية الطاهرة فوق أرض الرباط الآن أظهرت الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني العنصري الذي يرتكب أبشع الجرائم تحت سمع العالم وبصره بلا حرج، ويتورط بعمى مثير لأنه يتصرف بعفوية القوي الذي أمن الحساب والعتاب على السواء. ـ أن السلطات العربية قطعت شوطاً بعيداً عن شعوبها، فقد عملت على إخراجها من دائرة الفعل، وصنع القرار، واختارت أن تقف في العراء بلا قوة حامية، فاندفعت مرعوبة لأحضان أعداء الأمة الذين تلقفوها وعاملوها معاملة التابع الذليل. جاءت المظاهرات الحاشدة التي عمت العالم الإسلامي بمثابة استفتاء شعبي حر ومباشر على خيار المقاومة والجهاد المسلح، وانتهاء زمن المبادرات العربية، والخيار الاستراتيجي للسلام. لهذا يجب على الحكام العرب الذين كانوا يلهثون وراء السلام ويستجدونه من إسرائيل بلا جدوى، ألا يجدفوا ضد التيار الشعبي الهادر، وعليهم أن يستثمروا اللحظة التاريخية الرائعة ليستعيدوا مكانتهم وإرادتهم على الفعل وإدارة شئون شعوبهم كمؤسسات حاكمة. فهل وعت الحكومات هذه الحقيقة؟ حقاً لقد تدرج وعي هذه الحكومات بحقيقة التحول الذي طرأ على طبيعة الصراع مع المشروع الصهيوأمريكي مع أيام العدوان الغاشم على غزة في السبت 27/12/2009. فمنهم من كان له دور مشارك في العدوان منذ البداية. ومنهم من انتظر ظناًُ منه أنها كانت مجرد حملة تأديبية ستعيد بها إسرائيل السلطة الفلسطينية إلى غزة بالقوة بعد أن تقضي على حماس وينتهي الأمر. ومنهم من فقد القدرة على الحركة في أي اتجاه. ومنهم من كانت له رؤية تحددها عقيدة وخط نضالي واضح وهم قلة. فهل يمكن أن تتطور هذه الرؤى السلطوية لتواكب التقدم الجهادي الذي اختزل الزمن، وأدار الأحداث نحو الاتجاه الصحيح؟ الأحداث على الأرض تؤكد عكس هذا، فهاهم يسيرون وفق طبيعتهم عكس الاتجاه، وجل همهم تحويل الانتصار العسكري الرائع في غزة لصالح الصهاينة، ومنحهم ما عجز عنه جيشهم الذي لا يقهر ـ حسب زعمهم ـ. بلغوا حداً مخزياً ومقززاً من الضعف والتهافت، فلا هم قادرون على اتخاذ قرار عندما اجتمع وزراء الخارجية، وهم عاجزون عن الضغط لإصدار قرار في مجلس الأمن، والآنسة كوندا تجتمع بمن تشاء ومنهم، وتحرم من التطلع لمحياها من تريد. في الصباح وقف عباس في القاهرة في موقف بائس مثير للاشمئزاز والسخرية، وهم يلقنونه عن اليمين والشمال ـ يتباكى على الدماء الفلسطينية وكأنهم ليسوا شركاء فيما يجري، وكأنهم لم يتمتعوا بحماماتهم الدافئة، ويعقدوا أربطة أعناقهم بمهارة، استعداد لدخول غزة على دبابة صهيونية فوق أشلاء حماس كما رأوها في أوهامهم وخيالاتهم المريضة. لو كان عباس صادقاً في عاطفته وموقفه كما يوهم، فالحد الأدنى أن يعتزل العمل السياسي ـ ليس الاستقالة ـ لأن ولايته انتهت بانتهاء التاسع من يناير الجاري ـ ويعلن فشل السياسة التي انتهجها وسلطة أوسلوا، ويحرر شعب الضفة ليدافع عن قضيته، ويناصر إخوانه في غزة كما يريد، أو يرحل ليتمتع بملياراته في منتجعات العالم كيف يشاء، حتى يلقى الله. أنا لا أعتقد هذا ـ مع الأسف ـ عباس سلطة فلسطينية، جزء من السلطات العربية، نفس العقلية والوظيفة، قد يركبوا الموجة حين يرون ارتفاعها، وينافقون الشعوب حين يعاينون هدير أمواجها، ولكن حرب العقيدة خالصة لله، والنصر فيها موقوف على ميقات إلهي، ثم معايير إيمانية، والأيدي الملوثة بدماء المسلمين لن ترفع للإسلام راية ولو وقفت على أعتاب تل أبيب، وأن النصر الحاسم لن يتحقق إلا بالربانيين وللربانيين