الجمعة، ٢٨ ديسمبر ٢٠٠٧

الأدب والقيم الاجتماعية.. التداخل والحدود

بقلم: أحمد عبد الباقي

صار هذا الموضوع- فجأةً- ساخنًا، وقضيةَ رأيٍ عامٍ؛ لأسبابٍ، منها المفهوم، ومنها غير المفهوم، وفي غبار المعركة وُضعِت الثوابت والبديهيات موضع المناقشة، واتضح للجميع- حتى من خارج الحقل الأدبي- مدى التداخل العجيب والتباعد الفاجع بين نظرة أهل الكتابة والنقد من جهةٍ ونظرة أهل الفكر والثقافة من جهةٍ أخرى، بل ظهر أحيانًا تناقضٌ بين موقف الكاتب نفسه في فترةٍ ما ثم موقفه هو نفسه في فترةٍ أخرى، ولا يمكن أن يُبرَّر هذا التناقض إلا على أساس تداخل المعايير التي نبني عليها مواقفنا النقدية تجاه الإبداع وحركية الإبداع داخل المجتمع وداخل الإطار القيمي أو خارجه.

أقول تداخل وضبابية المعايير، وأكاد أقول غيابها؛ مما أفسح المجال واسعًا أمام المواقف الانتهازية والمصلحية الضيقة، وهذا- لا شك- ضارٌّ بالأدب وحركته، ومكانته وأثره في حركة تطور الأمة كلها.

ومن خلال تلك المُستجدَّات على الساحة الأدبية تبدو أهمية البحث في العلاقة بين الأدب والمجتمع قديمةً جديدةً ملحةً، تدعو جميع الغيورين على الأدب وتطوره، وعلى المجتمع وسلامته إلى نفض غبار المعارك وتوضيح الصورة، وتجلية القضية وتحديد المعايير ما أمكن؛ فنحن أقرب إلى نظرية الأدب منا إلى النقد المعياري أو حتى التحليلي، ولذلك فالجميع مطالبون بتوضيح المسألة وفض الاشتباك بحيادٍ وتجريدٍ بعيدٍ عن الغوغائية والنوازع التعصبية والأفكار المطلقة عن الحرية أو القيود؛ فلكل حقلٍ من حقول النشاط الإنساني له قواعده ومعاييره وأسسه مهما كنا نحب الحرية، فلا بد ألا تتماهى الحدود بين الحرية والفوضى، بين الإبداع والإخلال، وكذلك مهما كنا نعتدُّ بالقيم وأنها مطلقةٌ حاكمةٌ في مجتمعٍ كمجتمعنا إلا أننا نأبى أن تغيب المعايير، ونحكم على القيم الإبداعية بقيمٍ غريبةٍ عن مجالها، مستمدةٍ من مجال آخر له احترامه وكيانه، ولكن له أن يحكم شيئًا غريبًا عنه.

معنى الإبداع والقيم

جاء في أساس البلاغة: "أبدع الشيء وابتدعه: اخترعه، وابتدع فلانٌ هذه الركية، وسقاءٌ بديعٌ جديدٌ". المعنى اللغوي لكلمة الإبداع يدور حول الجِدَّة والاختراع؛ فالبديع هو الجديد الذي جاء على غير مثالٍ سابقٍ، ومن هذا المعنى "البدعة"، وهي الجديدة في أحكام الشرع، وهي ضلالةٌ على حد تعبير الحديث الشريف؛ لأن الشرع توقيفٌ لا ابتداعَ فيه، و"لا اجتهاد مع النص".

والبديع مذهبٌ انتشر في العصر العباسي، من روَّاده بَشَّار، وأبو نواس، وابن المعتز، ثم أبو تمام، وقد ألَّف ابن المعتز كتابًا سماه "البديع"، ثم انصرف المعنى إلى المُحسِّنات، وصار عَلَمًا على عِلْمٍ خاصٍ من علوم البلاغة المتأخرة في شروح التلخيص وحواشيه، وأصبح اسمًا على غير مسمى.
الابتداع والاختراع إذًا هو التأليف المتفرد الذي لا يخضع لتقليد مثالٍ سابق، ومن هنا فهو معاناةٌ مستمرةٌ يعيش فيها الأديب حتى يخطَّ لنفسه طريقًا مميزًا.

ولكن الإبداع رغم كل شيء يظل نسبيًّا في مجال الأدب؛ فمهما عَمِلَ الأديب وبذل من جهدٍ فإنه لن يتمكن من الإتيان بالجديد الخالص من أصوات الآخرين، معاصرين أو تراثيين، بل إن هذا الظهور وكيفيته ربما كانت هي مناط التميُّز والتفرد فيما أزعم، فإن الإبداع الأدبي ليس أن يأتيَ بما لم يأتِ به أحدٌ من قبله أبدًا، بل أن يأتيَ بشيءٍ مميزٍ رغم أنه يحوي الكثير مما جاء به الأوائل، فهو يأخذ منهم ويضيف إليهم. أما أن ينسج في الهواء، ويصرخ في بيداء، ويسير عكس الاتجاه فليس هذا إبداعًا ولا ابتداعًا، أكاد أقول إنها في هذه الحالة تكون زوبعةً لإثارة الانتباه ودعاوى عريضة دون محتوى.

الإبداع هو أن تأتيَ بالجديد الذي إذا قورن بالقديم كان منه وليس هو نفسه، يأخذ ويكمل المسيرة، يبدأ حيث انتهى الآخرون.

هذه الحركية المميزة للإبداع تُحدث بالضرورة جدلاً بين القديم والجديد، لا قطيعةً كما دعا بعض من لا يفهمون حقيقة الأدب والفكر، أو يفهمون لكن دوافعهم المغرضة هي التي تدفعهم لهدم التراث بجرَّة قلمٍ سامٍّ لا شك.

هذا الصدام والجدل بين القديم والجديد هو سبيل التطور والتقدم في كل الآداب، وهو بذرة النماء المستمر، وبقدر هذا الجدل الخلاَّق نحكم على أدبٍ ما بالحيوية أو الجدب.

أما عن القيم فقد جاء في أساس البلاغة: "أقام الشيء: أدامه، وما لفلانٍ قيمةٌ: ثباتٌ ودوامٌ على الأمر، وهو الحي القيوم: الدائم الباقي، وهو قائمٌ بالملك، وهم قامة الملك وساسته، وقام الماء: جَمُدَ".

المعنى العام للقيم هو الثبات والدوام؛ فهي لا تتغير بتغير الزمان والمكان، وهي- مهما قيل في شأنها- مطلقةٌ رغم محاولات الوضعية المنطقية وغيرها من المذاهب الخلقية التي تصورها على أنها نسبية، وتعلن مقولة: "حقائق فوق البرانس"، وباطل دونها ذلك الفهم الخاص للقيم، ليس مُسلَّمًا به حتى في إطار الثقافة الغربية، فضلاً عن أن نسلِّم به نحن أصحاب الثقافة العربية الإسلامية.

أقول: قد يبدو للبعض أن القيم تتأثر بمؤثرات الزمان والمكان؛ فلكل عصرٍ قيمةٌ، ولكل مجتمعٍ قيمةٌ، ولكن هذا التأثير إنما هو عند الناس نسبيٌ ونادرٌ، بل يكاد يكون عكس المطلوب وانتكاسًا ورِدَّةً يهُبُّ المصلحون في كل عصرٍ ومَصرٍ لإزالة الغبار عن المجتمع التي تناساها أو تجاهلها بفعل الظروف المتغيرة، أو يهب المصلحون لإقرار قيمٍ ثابتةٍ غابت عن المجتمع أو يحتاجها في لحظةٍ تاريخيةٍ معينةٍ.

الأصل إذًا أن القيم ثابتةٌ دائمةٌ يقبلها المجتمع، ويقيس نفسه عليها، ويحسب موضع قدميه بالنسبة إليها؛ فهي إرشاديةٌ معياريةٌ، حاكمةٌ على ضروب النشاط الإنساني بالصحة ما اقترب ذلك النظام من إطارها، وبالخطأ والفساد ما ابتعد هذا النشاط عن نطاقها، وعلى مدار التاريخ كانت نقاط التماس بين القيم وضروب النشاط الإنساني مناطقَ ساخنةً، يحاول كل طرفٍ أن يَغيرَ على حدود الطرف الآخر، موسعًا عن نطاقه، وفي حالتنا هذه كثيرًا ما سمعنا النقد الحاد والرفض التام من رجال الخلق والإصلاح والدين تَنْصَبُّ حارقةً على عددٍ من الشعراء والأدباء، وتحاكم الإبداع محاكماتٍ مُطوَّلةً، وكذلك كم قرأنا وسمعنا من دفاعاتٍ مُطوَّلةٍ مجيدةٍ عن الحرية وعن حق الأديب في التمرد الدائم!!، وأن الخنوع والخضوع لقيم الجماعة هو مرادفٌ لقتل الإبداع، ومظهرٌ لموت الأدب!!.

نموذج قريب

وقد تجلَّت تلك المساحة الساخنة في ظروفنا الراهنة ربما بأوضح صورها؛ فقد ثارت معركةٌ مؤخرًا حول نشر رواية للكاتب "حيدر حيدر"، ثم ثارت بعدها عدة معارك اختلفت منها المواقف، وتباينت المنطلقات، وتعارضت الآراء، لما ظهر وجه الحق جليًا حتى الآن.

وسوف يستمر الصدام الأزلي بين الثابت والمتحول، بين القيم الثابتة والإبداع المتحرك المتحول، فمن الممكن أن يقود الإبداع فَيُرسي قيمًا أُهمِلت أو يزيل عنها التراب.

قال أبو تمام قديمًا:

ولولا خِلالٌ سنَّها الشعرُ ما درى بناةُ العلا من أين تُؤتَى المكارمُ

فمثلاً قيم التمسك بالأرض والدفاع عنها ماتت لمدةٍ من الزمن، ثم أعادها الإبداع إلى الحياة قويةً مؤثرةً باهرةً، وثمة قيمٌ أخرى ما زالت سائدةً، لكنها سلبيةٌ حاربها الإبداع، وقد يتمكن من القضاء عليها.

يجب ألا ننسى أن القيم هي مجال عمل الأدب.. الحق، الخير، الجمال، وقد يصطدم الإبداع بتلك القيم أو بقيم متفرعةٍ منها أصليةٍ وثابتةٍ، فهل يمكن أن نفسح له الطريق؟!، أم يجب أن نصادره ونضحي به من أجل القيم؟!.

.

الصراع الجدلي بين القيم والإبداع

والواقع أن العلاقة بين طرفي هذه المعادلة هي علاقةٌ متوترةُ على مدار التاريخ الأدبي كله؛ فدائمًا كان هناك صراعٌ لا سبيل إلى القضاء عليه بين من يُحكِّم القيم الاجتماعية فيحاكم فلويبر بسبب مدام بوفاري مثلاً، أو يُوظِّف الأدب لخدمة فكرٍ ما أو قضيةٍ ما اجتماعية أو سياسية، ويَصِمُ الأدب الذي لا يُوظَّف في هذا المسار بالفساد والضعف والانحلال.

إن هناك صراعًا دائمًا بين هؤلاء وبين من يطلق الشعر والأدب من كل القيود والحدود، ويعتبر أن القيم الفنية البحتة هي الحاكم الوحيد والقانون الأوحد في حقل الدراسة الأدبية، رأينا ذلك في دعوة الفن للفن ومدارس النقد الجديد والشكلية الروسية، ثم مذاهب الحداثة، وما لنا نذهب بعيدًا هكذا أن ذلك الموقف تجلَّى في تراثنا القديم حين دافع القاضي الجرجاني عن حرية الأديب، وفصل بين دين الأديب وخلقه وبين مكانته الإبداعية؛ حيث لم يطلق أحكامًا خُلقيةً على خلاعة امرئ القيس وأمثاله، بل اكتفى بالأحكام الفنية فقط.

هناك صراعٌ إذًا، وقد أدلى كل فريق بدلوه ودافع عن موقفه دفاعًا صلبًا مجيدًا، والجهة منفكةٌ فيما أزعم بين الفريقين شرط أن نعمق النظرة ولا نتوقف عند ظواهر الأشياء.

إننا عندما نستعرض تاريخ الأدب في العالم ونرصد ملامح التغير ومسارات التطور يستوقفنا ملمحٌ بارزٌ في هذه الحركة، وذلك التطور ألا وهو أن حالة المجتمع المنشئ للآداب العقلية والاجتماعية والسياسية كانت هي المؤثر الحاكم في تطور الأدب واتجاهه وجهة معينة وتكوين القيمة المهيمنة عليه في اللحظة التاريخية المعينة، كان شعر الحماسة في العصر الجاهلي استجابةً طبيعيةً لحالة المجتمع، وكان تقديس المرأة في شعر "التروبادور" كذلك نتاجًا لظروفٍ اجتماعيةٍ بحتةٍ.

والشعر العذري في العصر الأموي لم يكن إلا استجابةً لحالةٍ اجتماعيةٍ جديدةٍ متأثرةٍ بالقيم الإسلامية التي احترمت المرأة، فلم تعد سلعةً، كانت على الأقل المرأة الحرة، أما شعر الخلاعة فهو يؤكد القضية نفسها، فحينما حُرِمَ المجتمع من وصال الحائر بالطريقة التي يهواها بسبب الحدود والقيود الشرعية، ووجد هدفه في سوق الجواري، ونظر فيها إلى المرأة كسلعةٍ عبر الشعر عن تلك القيم وتلك النظرة.

معنى هذا أن التأثير والتأثر المتبادل بين المجتمع وقيمه من جهةٍ وبين الأدب والقيمة المهيمنة عليه من جهةٍ أخرى في ظرفٍ تاريخيٍّ معينٍ، هذه العلاقة كانت كفَّتها في الغالب تميل ناحية المجتمع والانتصار له.

لا شك أننا بالجبرية الأدبية، فلم يفرض أحدٌ على كاتبٍ أو شاعرٍ شيئًا، حتى من فرضوا على الإبداع موضوعاتٍ معينةً نحن لا نوافقهم، فهذا خارجٌ عن طبيعة الأمور، فما إلى هذا قصدنا، وما يصح أن نتعامل مع الأدب بتلك النظرة، لكننا ننظر نظرةً كليةً نسبيةً، فإذا كان هناك تأثرٌ من الأدب بقيم مجتمعه أو بالقيم العامة وتأثيرٌ للأدب في هذه القيم فإن علاقة التأثير والتأثر تميل كفَّتها ناحية المجتمع وقيمه السائدة.

الاستجابة

وعلى مدار التاريخ فإن استجابة الأدب للقيم كانت نسبيةً، وتسليمه لها لم يكن مطلقًا نهائيًّا؛ فما زال الأدباء يناشدون تلك القيم ويتململون منها بل، ويجهرون بعدائها، لكنهم لا يملكون الانتصار عليها مهما حدث.

ولذلك فإن العلاقة بين الأدب والقيم الاجتماعية يجب أن تعامل بحذرٍ عندما ندرسها؛ لأن الخيوط فيها متشابكةٌ، واللغط كثيرٌ بين من يدَّعي أن المجتمع هو كل شيءٍ، بل ويطالبنا بخططٍ خمسيةٍ للأدب على غرار خطط التنمية الأخرى كما كان يحدث في روسيا الشيوعية، وبين من يلغط بأن الأدب إبداعٌ خالصٌ لا شأن له بالمجتمع وقضاياه، وينادون بكتابة الجسد والخيبات الصغيرة وتوافه الحياة.

كما يدعون هذا اللغط الكثير دفعنا إلى توسيع مساحة النظر ومعيار الحكم، بل دفعنا إلى النظر في مجمل التاريخ الأدبي؛ لإثبات تلك الفرضية البسيطة، وهي أن المجتمع يحكم ويوجه الأدب دون أن يدرك الأدباء ذلك ودون أن يقاوموه، بل دون أن يشعروا بوطأته في كثيرٍ من الأحيان.

وهكذا فإن الحالة النفسية والاجتماعية وتصور المجتمع للكون والحياة والإنسان وفلسفته العامة الغالبة إنما هي أمورٌ حاكمةٌ للتطور الأدبي. إن الدعوة لأدبٍ يخالف تلك الفلسفة العامة والذوق الغالب هي دعوةٌ فاشلةٌ سلفًا؛ إذ لا بد من تهيئة التربة قبل غرس نبتٍ جديدٍ، وأي محاولةٍ لتجاوز تلك الحقيقة هي محاولةٌ مقضيٌّ عليها بالفشل، وتجربةٌ مصطنعةٌ، وتلك هي لب أزمة الأدب العربي الحديث؛ حيث تعرَّض أدبنا لطوفانٍ من فكر فلسفاتٍ وذائقةٍ وافدةٍ تأثَّر بها الأدباء والنقاد بما أنهم أقدر على الاستيعاب والتذوق والتمثيل بصورةٍ أسرع من جمهور الأدب، وجمهوره- لهذا السبب ولأسباب أخرى اجتماعيةٍ أيضًا- حدثت تلك القطيعة بعد أن حاول كبار أدبائنا إدخال مدارس أدبيةٍ جديدةٍ في ظل ظروفٍ معينةٍ في أوروبا.

حاول كبار أدبائنا إدخال مدارس الرومانسية، والواقعية، ثم الرمزية، ومدارس الحداثة بطريق التهجين، فأخذوا منها الشكل أو الظاهر غالبًا، وافتقدوا الجوهر الذي هو فكرها وفلسفتها ونظرتها إلى الكون والإنسان، أو أخذوا الفكر أيضًا في بعض الأحيان، لكن الجمهور لم يكن مستوعبًا له، أو قابلاً له كله قد يكون مستعدًا لقبول التجديد الشكلي أو لتمثيل بعض عناصر التجديد، إما أن يكون قابلاً للمذهب برمته أصلاً وفصلاً كما يقال، وإلا فلا، فغاب الجمهور وغابت التجربة الحية والتفاعل المثمر بين المدرسة الأدبية والجمهور الأدبي عندنا، ولم تكن عند كذلك الغرب.

يقول محمد مندور عن نشأة المذاهب الأدبية: "والذي تجب الفطنة إليه عند الحديث في نشأة المذاهب الأدبية هو ألا تتصور أنه قد قُصِدَ إلى خلقها، فوضع الشعراء أو الكتاب أو النقاد أصولها من العدم، ودعوا لاعتناق هذه الأصول؛ وذلك لأن الحقيقة التاريخية هي أن المذاهب الأدبية حالاتٌ نفسيةٌ عامةٌ ولدتها حوادث التاريخ وملابسات الحياة في العصور المختلفة".

هل يمكن أن تقول بناءً على ذلك أن محاولة العقاد وزميله، ثم مدرسة أبوللو والمدرسة الواقعية والشعر الجديد كل ذلك كان اصطناعًا لا أساس له، وأن أولئك الرواد جاءوا بما لا حاجة لنا به، وما لا قِبَلَ لنا باحتماله، وأن حركتهم كانت ضد منطق التطور وطبيعة الأشياء؟.

الواقع أنه لا أحد يمكنه أن يصدر ذلك الحكم، رغم أن المدارس الأدبية بالفعل كانت تعكس حالاتٍ نفسيةً واتجاهاتٍ فكريةً نشأت في بلادٍ بعيدةٍ وثقافةٍ أخرى، لكن إمعان النظر مطلوبٌ؛ لبحث سبب ميل الرواد إلى هذه المدرسة أو تلك، لا شك أنهم مهما كانوا منبهرين بأوروبا وما فيها، أقول لا شك أنهم كانوا متأثرين بحالة المجتمع في اختيارهم من بين المدارس السائدة في أوروبا؛ فقد بدأت النهضة عندنا بعد أن استوت على عودها في أوروبا، فلماذا أهمل شوقي جميع المدارس الرومانسية واهتم بالكلاسيكية؟، ولماذا أهمل العقاد مذاهب الرمزية وما إليها واهتموا بالرومانسية؟. لا شك في ذلك: يسيرون مع النطق الطبيعي للأشياء، وأنهم كانوا يستجيبون لحاجة المجتمع.

والآن جاء دور الإثبات أو التحقق من تلك الفرضيات النظرية، وسوف نستعين بتاريخ المذاهب الأدبية؛ لأن النظرة التاريخية مهما عابها البعض لهي أسلم الطرق لإثبات حالة التأثير المتبادل بين الأدب والقيم الاجتماعية.

الكلاسيكية ومثل المجتمع الطبقي

نظرية المحاكاة كانت أساس الكلاسيكية في الغرب؛ فقد قامت على فلسفة إحياء التراث اليوناني، مثل نظرية الفن عند أفلاطون الذي يرى العالم كله إنما هو ظلالٌ ومحاكاةٌ للعالم الحقيقي: عالم المثل والفن، محاكاةٌ لما في الطبيعة؛ فهو إذًا ناجحٌ بقدر مقدرته على نقل ما يحدث في الطبيعة، سواءٌ تصويرًا، أو شعرًا، أو دراما.

ثم طوَّر "أرسطو" هذه النظرية في كتابه (فن الشعر)، ومن بعده "هوارس" في كتاب حمل نفس العنوان؛ حيث رسَّخا نظرية المحاكاة في ضمير عصر النهضة الأوروبية المجتمع الخارج حديثًا من عباءة النبلاء ومن سلطة الكنيسة والإمبراطور عصر التنوير والعقل والفلسفة، عصر ديكارت.

هنا نرى توازن كفَّتَيْ الميزان بين المنهج الديكارتي العقلي الواضح الباحث عن اليقين في الاستنباط الرياضي، وبين المسرح الشعري عند راسيين وموليير وكورني، نرى قانون الوحدات الثلاث المحدد المعالم، نرى أهمية الذوق واللياقة، نرى الحفاظ على تقاليد الطبقة وملامح البطل النبيل.

هذا الأدب يعبِّر عن روح الطبقة المسيطرة، ومثلها الاهتمام بالشكل والقواعد المرعية، والوضوح المنطقي والاهتمام بالفخامة، واتخذا المسرح أساسًا لتحديد قواعد الفن وشرح نظرية المحاكاة وعدم الاحتفال بالذاتي الفردي، وعدم الإعجاب بالانفعالات غير المُبرَّرة، بل احتقار الاندفاعات غير العقلية، والدعوة لتمجيد الإنسان بما هو كينونةٌ عامةٌ، وليس بما هو فردٌ منفردٌ لا يتكرر مثل ذلك، كان توافقًا من الأدب مع المجتمع الكلاسيكي، فلم يكن هناك غلابًا صراع بين أدباء العصر ومجتمعهم على صعيد القيم لا شك؛ لأنها مناط بحثنا؛ وذلك لأن الأدب خضع للمجتمع وعبَّر عنه أصدق تعبير، وعندما نقلت الكلاسيكية إلينا على يد الزعماء الأحياء قاموا بما قام به أدباء أوروبا، فكان الشعر الجاهلي هو المثال أو على الأقل الشعر القديم هو المثال الذي قام بما قام به المسرح اليوناني في أوروبا، وكانت كتب "الآمدي" و"الجرجاني" هي الأساس الذي أرسى قواعد الشعر، كما حدث في حالة كتاب الشعر لأرسطو، ثم تأكدت هذه القواعد في كتاب الوسيلة الأدبية، ثم المذاهب الفتية كما في حالة كتاب هوارس "فن الشعر".

وعبَّر البارودي وشوقي وحافظ عن كل ما يعتمل في مجتمعهم، وكانوا لسان حال ذلك المجتمع، فقد وجَّهوه وعبَّروا عنه دون تناقضٍ مع قيمه أو حتى تباعدٍ معها.

وكما حدث في أوروبا من نقدٍ وشكٍ في جدوى شعر "بوب" الأخلاقي في إنجلترا، ذلك الشعر التعليمي الملتزم بالقواعد حدث ذلك عندنا، فقد تشكك النقاد في شعر شوقي الحكمي والأخلاقي كما في الديوان لعباس العقاد والمازني.

فالتشابه واضحٌ جليٌّ، والدور الذي قامت به كلاسيكية الغرب هو نفسه الدور الذي قامت به كلاسيكية الشرق، بل والمجتمع الطبقي متشابهٌ رغم اختلاف الظروف بينهما، والدور الذي قامت له كلاسيكية الغرب هو نفس الدور الذي قامت به كلاسيكية الشرق، والمصير واحدٌ، فلا عجب أن يكون الموقف بينهما واحدًا من المجتمع.

الرومانسية

كل من يحاول دراسة هذه المدارس المتداخلة المتشابهة يبدأ بوصف المجتمع الذي أفرز تلك المدارس، ويعتبر كثيرٌ من دارسي الأدب أنه ليس هناك على مدار التاريخ الأدبي إلا الكلاسيكية والرومانسية، فهما يتراوحان ويتبادلان السيطرة على عصور الأدب حسب حالة المجتمع وموقفه من القيم والتقاليد السائدة؛ فإذا كان هناك احترامٌ للقديم وتقديسٌ له بسبب نهضةٍ سابقةٍ سيطرت الكلاسيكية، وإذا كان هناك قلقٌ وثورةٌ وتوترٌ ورغبةٌ في الجديد وتململٌ من القديم سادت الرومانسية.

والرومانسية التي استحقت بل ونحتت هذا المصطلح هي مدرسة تمثل خطوةً كبرى في سُلَّم التطور الأدبي؛ فمن عباءتها خرجت الحداثة بكل أشكالها وألوانها أن الرومانسية هي المعبَّرة عن روح الطبقة الوسطى إبَّان صعودها بعد تفوقها على طبقة النبلاء؛ ففي الرومانسية تتجسد روح تلك الطبقة وأحلامها وأخلاقها؛ حيث كانت تتطلع للعالم المفتوح أمامها المليء بالمغامرة والأماكن البكر الموحشة والبهيجة في الوقت عينه، الغابات والبحار الممتدة، والشعوب البدائية والأموال، والنجاح ثم السقوط، واللاجدوى بعد ذلك، ورغم كل ما قيل من جنوح الرومانسية للخيال والأحلام واعتمادها المطلق على الانفعال الفردي، وتقديسها للفرد في مواجهة المجتمع، فإن ذلك يحوي- من حيث لا تدري- تلك الرومانسية خضوعًا لمنطق المجتمع، وتماشيًا معه، واستجابةً لروحه، فإنه المجتمع المؤمن بالفرد والفردية، المتطلع لعالم مثالي ليس له وجود على الأرض عالمٌ يحكمه الخيال؛ حيث المال يحكم الأرض، المجتمع الذي صار يشعر بغربةٍ قاتلةٍ وانفلاتٍ مدمرٍ.

أليس عجيبًا أن شوقي الذي عاش في فرنسا وعاصر كبار الرومانسيين لم يستجب للرومانسية، وكان كلاسيكيًّا حتى النخاع، ولم يتذوق من الأدب الفرنسي إلا ما كان كلاسيكيًّا؟!، هل كان ذلك إلا استجابةً لتكوينه الأرستقراطي، وأن شوقي نفسه عندما ظهرت دعوة الديوانيين وهجومهم عليه لم يستجب لها، بل لم يهتز بها أدنى اهتزاز؟!، ثم لما عانى تجربة النفي وتحطمت أبهته الأرستقراطية وضاع منصبه في البلاط الخديوي مال شوقي نفسه إلى الرومانسية في أخريات حياته، وغنَّى كما لم يغنِّ من قبل في مسرحياته، وهي التي أعدت للتمثيل؛ أي غنَّى في الدراما أكثر مما غنَّى في الشعر الغنائي؟!.

ولنراجع معًا "مجنون ليلى" و"كليوباترا" لنبرهن على ذلك، هل بعد ذلك نجد شكًّا في تحكم الذوق العام والإطار العام للأديب في توجهه الفني؟!.

إن طبقة البرجوازية الجديدة التي نشأت في مصر بعد نهضة محمد علي التعليمية، والتي عانت ويلات الاحتلال الإنجليزي وشعرت بغربةٍ قاتلةٍ في وطنها ربما أشد من الغربة التي أنتجت حركة الرومانسية الأوروبية تلك الانتلجنسيا هي التي حملت لواء الرومانسية العربية من الديوان إلى أبوللو، مرورًا بالمهجريين؛ تلك النخبة التي ملَّت القديم وتململت من القيم السلبية البالية القديمة التي أدت إلى السقوط في براثن المحتل، قيم المبالغة والنفاق، والشكلية والتقليد، وعدم المجازفة وراء الجديد العميق، وكذلك قيم الجمود ورفض التحرر، وقد ربطت بين تلك القيم المحافظة في كل صورها، فنبذتها جميعها بحدةٍ وشدةٍ، وعانت في تلك الفترة.

فإن المتعجل يمكن أن يظن أنها عادت المجتمع وتصادمت معه، ولكن كيف نحكم بذلك والمجتمع كله يتململ ويتمرد على تلك القيم البالية وقد رأى في الرومانسية تعبيرًا عن نفسه رغم كل ما يثار من معارك أدبية بين أنصار القديم والجديد؟!، فلا شك أن الغلبة كانت للجديد.

ونعود مرةً أخرى إلى أوروبا وإلى "رينيه ويلك"، فيحدثنا: "كان انتصار الرومانسية في ألمانيا أكمل مما في سواها؛ لأسبابٍ تاريخيةٍ واضحةٍ؛ فقد كانت حركة التطوير هناك ضعيفةً قصيرة العمر، ولم تأتِ الثورة الصناعية هناك إلا في وقتٍ متأخرٍ؛ ولذلك فتحت تلك الأسباب الاجتماعية الفكرية الطريق أمام أدب أنتج معظمه مفكرون غير ملتزمين، وجراحون في الجيش، وموظفو مناجم، وموظفو المحاكم، ومن لفَّ لفَّهم ممن تمردوا على مثل الإقطاع والطبقة الوسطى". هذه هي الرومانسية التي وصفها الشاعر الإنجليزي "ويلك"، ويرى أن هدفها الأعلى هو أن ترى العالم حبة رملٍ والسماء زهرةً بريةً، وقد عبَّرت الرومانسية عن روح المجتمع في أوروبا، وكذلك عندما نقلت إلينا في ظرفٍ تاريخيٍّ معينٍ عبَّرت عنا وعن روح مجتمعنا رغم أنها منقولة؛ وذلك لتشابه الظروف، فمسوغ نقلنا لها، وسبب قبولها هو حالة المجتمع، حتى لقد سميت الرومانسية لذلك مرض العصر.

الرمزية والحداثة

ربما كان مذهب الرمزية من أكثر المذاهب خرقًا للقيم الاجتماعية، وطلبًا للحرية والانفلات من كل قيود العقل الواعي، وهو مذهبٌ متأثرٌ بالملل الذي أصاب الطبقة الوسطى أو الطبقة البرجوازية- إن شئنا الدقة- وشعورها بعد تحطم أجنحتها وروح المغامرة التي كانت فيها، وبعد شعور الأدباء بمأساة الإنسان، فيظل الجشع الرأسمالي الشديد وتحطيمها- أي الرأسمالية لكل قواعد العقل والمنطق-، ومن هنا مالت الرمزية إلى أشكالٍ وآلياتٍ بعيدةٍ عن العقل أقرب إلى الكشف الصوفي أحيانًا وإلى التعمية المقصودة أحيانًا وإلى التهويم فيما وراء العقل والواقع في بعض الأحيان.

لجأت الرمزية إلى استيطان اللاوعي الفردي واللاوعي الجمعي إلى تحطيم الأطر القديمة للتعبير اللغوي شعرًا ودراما، وسردًا بحثًا عن الجديد؛ بحثًا عن نقطةٍ في ليلٍ كثيفٍ صنعته الرأسمالية وقيمها البالية، وهنا يكون الصدام الظاهري مع قيم المجتمع ليس صدامًا، بل هو نفاذٌ لروح محجوبٍ وراء دخان المصانع وأصوات البائعين في البورصة، وما قيل عن الرمزية يقال بحذافيره عن كل حركات الحداثة بعدها وما قيل عن رمزية وحداثة، وما بعد حداثة الغرب يقال عما حدث عندنا، ربما الفرق الوحيد بيننا وبينهم- وهو يظهر في كل المدارس السابقة- هو في مدى فهم الأسس النظرية والمنطلقات الفلسفية.

بين الفردية والجماعية

هناك جدلٌ قديمٌ بين فلاسفة التاريخ: من يصنع التاريخ، هل هم العظماء كما رأى ذلك كارليل في كتابه "الأبطال" وكما رأى رأي غيره؟، أم أن المجتمع وحركته هما اللذان يصنعان التاريخ؟.

بل إن هناك صراعًا بين من يرون أن الفكرة هي محركة التاريخ كما نرى ذلك عند المثاليين بزعامة هيجل، وبين من يرى أنها المادة كما زعم الماركسيون الماديون.

العجيب أن هذا الخلاف برمته قد انتقل إلى مجال الأدب؛ فهناك من يرى أن الأدب يطوره أدباء وشعراء عباقرةٌ، لا يخضعون بالضرورة للواقع، بل سيتمردون عليه، ومن ثم يأتون بالجديد ويغيرون مسار الحركة الأدبية، ويغيرون النموذج الإرشادي للذوق العام.

يقول ماركس سترنرابو: "إن المذهب الفوضوي أن الأعمال الفنية التي يستطيع فنانٌ ما إبداعها يعجز غيره عن القيام بها؛ ذلك لأنها وليدة موهبةٍ خاصةٍ لا تخضع بحالٍ للتنظيمات والترتيبات الجماعية، فمن ذا الذي يستطيع أن يحتل مكانة "موزار" الموسيقية، أو "روفائيل" الفنان هذا على جانب؟!، وعلى الجانب الآخر ما زال هناك من يصرون على أن الواقع الاجتماعي هو الذي يستجيب لموهبةٍ فذةٍ ما في كل ظرف تاريخي ما، أولاً يستجيب، وبالتالي تنمو تلك الموهبة وتخفت تلك الأخرى، وسيظل ذلك الخلاف مستعرًا لا حلَّ نهائيًّا له.

إننا إذا راجعنا التاريخ الأدبي- وليكن تاريخنا نحن- سنجد أن المواهب الفذة عبَّرت عن نفسها، وطوَّرت المسار الأدبي كله من خلال تعبيرها عن روح العصر وعن قيم الجماعة وليس من خلال مصادمتها أو التعالي عليها، إذًا فإن حل تلك الإشكالية النظرية التي شرحناها سابقًا كان موجودًا في تاريخنا لمن أراد البحث والدرس، ولم يكن ثمة تعارضٌ بين الأديب والقيم المهيمنة الفلسفية والاجتماعية.

ففي العصر الجاهلي نرى "الخنساء"؛ تلك الموهبة الشعرية التي لم تتكرر على نفس الدرجة في شعرنا اللهم إلا عند نازك الملائكة قليلاً، تلك المرأة في مجتمع الحماسة والقتال الدائم، مجتمع المعارك الثائر والدم الفائر، والناس بين موتورٍ وواترٍ، يقول دُريد بن الصمة:

يغير علينا واترين فيشفى بنا أن أصبنا أو تغير على وتر

بذاك قسمنا الدهر شطرين بيننا فما ينقضي ألا ونحن على شطر

الطوفان الذي كان لا يرى الشعر أنثويًّا، لكن المرأة المُعبِّرة عن القيم الحميمة والفروسية والبطولة الفردية الفذة في رثائها لأخويها معاوية ثم صخر لم تستطع أن تتكيف مع مجتمعٍ آخر يقدس المثل الديني والجهاد في سبيل الله من أجل الحق والعدل والدعوة الجديدة، فلم تزد عندما سمعت باستشهاد أولادها الأربعة في القادسية أو اليرموك أن قالت: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم"، كيف حدث هذا؟!.

إن عاطفة الأمومة أقوى لا شك، ولكن قيمَ وموضوعاتِ المجتمع الجاهلي ووضع صخر بالنسبة للقبيلة هو الذي حرَّك لسان الخنساء بالبكاء، ومواضعات المجتمع الإسلامي ووضع أبنائها هو الذي جعلها تصمت، فلم يكن أبناؤها حماة الدولة، بل هم مجرد أفرادٍ في مجتمعٍ كبيرٍ، ولم يضع جهدهم وجهادهم هباءً؛ فقد دخلوا جنةً عرضها السماوات والأرض، إذًا فلِمَ البكاء والعويل الذي تفجَّر حسب مواضعات العصر الجاهلي صار حمدًا وشكرًا على شرف الشهادة في العصر الإسلامي، أرأيتم كيف يؤثر المجتمع وفلسفته العامة على الأدب؟!، كيف اختلف موقف الأديب الواحد في عصرين مختلفين؟!.

الأدب والقيم

هل يحق لنا أن نستخلص من هذا المثال الذي ضربناه من المجتمع الجاهلي وغيره كثيرٌ أن الأدب مجرد انعكاسٌ للمجتمع كما يدَّعي أصحاب المدرسة المادية الجدلية، وكما عبَّر عنهم "أن القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج والتطورات الاقتصادية هي التي يتكون منها بنيان المجتمع السفلي الذي يقوم على أساسه الصرح الضخم للبنيان العلوي المكون من المثل الفكرية، فالمؤسسات السياسية القانونية، والعقائد الدينية، والأخلاق والآداب والفنون تعكس فيما تُشرِّعه لنفسها من نظمٍ وما تتخذه من قراراتٍ وما تبتدعه من إنتاج ظواهر اقتصادية"؟!!.

هذا التوصيف الفج لعلاقة الأدب بل والفلسفة بالمجتمع لا أقبله وأعتقد أن البحث الأدبي قد تجاوزه في أيامنا هذه بمراحل، وصار رافضًا بنفس القدر أو بأشد من قبوله في فترةٍ سابقةٍ كان هذا الرأي على الساحة فارضًا هيمنةً كاملةً، ولكن للسائل أن يسأل: ولماذا ضربت مثل الخنساء طالما لن تُسلِّم بما يترتب على ضربه أو طالما ستحترس من بعض ما يترتب على ضربه؟.

الواقع أنني ضربته تمهيدًا للسؤال التالي:

إلى أي حدٍّ أو إلى أي مدى يُسمَح للفنان أو يسمح هو لنفسه بمخالفات مواضعات الجماعة وقيمها المهيمنة؟ أقول: أنا أدَّعي أن الأدب أو بعض نماذجه العليا تتخطى مرحلة التعبير عن المجتمع إلى مرحلة تنوير أو تثوير، ومن ثم تغيير المجتمع، وعلى هذا الأساس نعود إلى السؤال: ما مقدار الحرية التي يمكن أن يتمتع بها الأديب تجاه المجتمع؟.

لقد راوغ توفيق الحكيم في كتابه (فن الأدب) ص 288، ص 299 تحت عناوين "الأديب يلتزم الأدب لا يلتزم" فما معني أن الأديب قد يلتزم بقضية ما ويدافع عنها كما فعل حسان بن ثابت مثلاً في الدفاع عن الإسلام والالتزام به، وأن الأدب لا يلتزم مع ذلك باحترام ذلك الأديب ووضعه مثلاً في طبقة المتنبي.

أن الأدباء ليسوا جميعًا على قدم المساواة في قدر الحرية الممنوح لهم من المجتمع لخرق مواضعاته، فهناك من ينفذ إلى روح المجتمع وذلك بموهبةٍ فذةٍ وبصيرة نافذة مدركة لما هو جوهري وأصيل وثابت وما هو عرض مضر وزائل فيخالف ذلك ويدمره ويحافظ على هذا، فليس كل قيم المجتمع قابلاً لأن يكون حقل تجارب، بل إنَّ هناك اختيارًا وتدقيقًا في تطوير أي جانب وحماية أي جانبٍ وتلك موهبة لا تكتسب بل لا يمكن تحديد ذلك قبليًّا وإنما يتحد بعد أن يكون المبدع قد فرغ من عمله هنا نقول إن النص قد أضاف علة إلى عللنا الكثيرة، و"زاد الطين بلة".

----------

* أديب وناقد مصري- الفيوم (سنورس).



نقلا عن إخوان أون لاين



هناك تعليق واحد:

عبدالرحمن فارس يقول...

الرائعون كالأحجار الكريمه لا نصنعهم ولكن نبحث عنهم لنهنئهم بالعام الجديد ... كل عام وأنتم بخير
عام مضى وعام يأتي ويارب السنه دي تكون أحسن من الي قبليها ونشوف نفسنا و مصر أحسن .... بدري بدري كده قبل الزحمه